سيرة الإمام البخاري رحمه الله
سيرة الإمام البخاري رحمه الله
  | , 5904   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: سيرة الإمام البخاري رحمه الله
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 23 ربيع الأول 1435هـ

 
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نعبده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديثِ كلام الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: عباد الله: فإن التاريخ حفظ لنا رجلًا من أهل الإسلام لا يمكن زوال ذِكرهم إلا بزوال الإسلام، ولن يزول الإسلام إلى قيام الساعة، إنهم حملة هذا الدين، وناقلوه إلى الناس عبر هذه القرون الطوال، منهم رجلٌ كان نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير من علماء القرن الثالث الهجري، ذاق اليتم كما هي سنة أكثر العظماء، وعاش في كنف والدته الصالحة وكانت الكتاتيب بوابة بروزه وشهرته وإمامته. سيرته -رحمه الله- من أعجب العجب في ذكائه، وحفظه وفقهه وعلمه، في عبادته وزهده وورعه، من هو ذلك الرجل؟ الذي دائمًا ما نسمع اسمه مع اسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ذلكم هو أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم البخاري -رحمه الله تعالى-. فقد أُلهم الإمام البخاري -رحمه الله- حفظ الحديثِ وهو في الكُتاب وعمره عشر سنوات، وكان يصحح للشيخ خطأهُ في الإسناد وهو ابن إحدى عشرة سنة، وحفظ كتب العلماء الكبار وهو ابن ست عشرة سنة، ثم حج مع والدته وجاور بمكة لطلب الحديث. بدأ تصنيف بعض كتبه مثل كتابه العظيم التاريخ الكبير، وهو ابن ثماني عشرة سنة، والكتب التي كتبها وهو في هذه السن المبكرة يقوم على دراستها عشرات من كبار الدارسين والمحققين، والعلماء. وأعظم من ذلك، وأعجب من ذلك أنه كان يصاحب أقرانه إلى المشايخ لأخذ الحديث، وهو يكتبون وهو لا يكتب، ويأمرونه بالكتابة فلا يكتب فلما ألحوا عليه قرأ عليهم ما كتبوه عن ظهر قلب، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، ثم قال لهم: أترون أني أختلف هدرًا، وأضيع أيامي. لقد كان أهل المعرفة من البصرين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب؛ حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه العدد الكثير أكثرهم ممن يُكتبَ عنه، وكان شابًا لم يخرج شعر وجهه بعض. قدم بغداد، وقد كان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوة حفظة -رحمه الله-، فأرادوا امتحانه واختباره، فعمدوا إلى عشرةٍ من حفاظهم، مع كل واحد عشرة أحاديث فكانت مائة حديث قلبوا أسانيدها وخلطوها على بعضها، فأخذوا يلقونها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة من حفظة بخطئهم -رحمه الله-، ثم أعادها مرة أخرى مصححة فأقروا له بالحفظـ، وأذعنوا له بالفضل. يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: هنا يخضع للبخاري فما العجب من دره الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا، وإنما العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة. يقول الإمام أبو بكر الكولذاني -رحمه الله-: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعه واحدة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة. انضم إلى ذلك الحفظ العجيب اهتمام بالغ في الحديث يشغله عن النوم كثيرًا، يقول تلميذه محمد بن يوسف: كنت مع البخاري بمنزله ذات ليلة فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثماني عشرة مرة، وكان ثمرة هذا الحرص، وتلك الحافظة رصيدًا كثيرًا من أحاديث بين مقبول ومردود يختزنها البخاري -رحمه الله تعالى- في ذاكرته بأسانيدها وفوائدها، وعللها حتى كان له أكثر من ألف شيخ في نواحي البلاد الإسلامية، يقول -رحمه الله-: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح. وكان من خبره -رحمه الله تعالى-: أنه أخبر أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، قال يصف تلك الرؤيا: وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين –أي المفسرين- للرؤى فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. وقال: كنا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح. كانت رؤياه، وقول شيخه حافزًا على جمع الصحيح الذي لا يوجد على وجه الأرض كتابٌ أصح منه إلا كتاب الله تعالى، وما كان ذلك إلا توفيقًا من الله تعالى وكرمًا منه لهذا       الإمام العظيم. ثم تحري هذا الإمام ودقته، وكثرة استخارته حتى خرج كتابه على أحسن وجه، يقول -رحمه الله-: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا توضأت في ذلك، وصليت ركعتين، ويقول: صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله، كان -رحمه الله- يرى أن الاشتغال بالحديث من أعظم ما يقرب إلى الله تعالى؛ حتى كأن المشتغل مجالس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه. يقول تلميذه الفِرَبري -رحمه الله-: أملى يوما عليَّ حديثا كثيرا فخاف مللي، فقال لي -رحمه الله-: طب نفسًا، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعتهم، والتجار في تجارتهم، وأنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه بعلمه وعمله واتباعه للسنة، وإخلاصه، بلغ صيته الأفاق، وأثنى عليه العلماء حتى قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له. وبلغ من محبتهم للبخاري ما قاله يحيى بن جعفر -رحمه الله-: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم. ومع علمه، وحفظه كان آية في العبادة، لم يشغله الحديث عن القرآن إذ كان يختم في كل يوم من رمضان ختمة، ويصلي في أخر الليل ثلاث عشرةً ركعة، وكان ذا خشوع عظيم في صلاته، وكان فيه من الورع والتقوى، ويكفي من ذلك قوله: إني لأرجوا أن ألقى الله -عز وجل- ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا. وكان من ورعه وشدة تعظيمه للعلم والحديث أن أرسل إليه أحد الولاة أن يأتيه بكتابيه الصحيح والتاريخ، حتى يسمعه منهما هو وأولاده، فقال لرسول ذلك الوالي: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس فإن كانت لك إلي شيء منه حاجة فاحضر في مسجدي أو في داري، فصار ذلك سبب وحشة بينه وبين الوالي مع سعي الوشاة بينهما فنفاه عن البلد، فدعا عليهم وكان مجاب الدعوة، وقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم، وأهاليهم، قال الرواة: فما مضى على دعوته شهرًا حتى صار عاقبة الوالي إلى العزل والذل، ثم الحبس، ومن سعى فيه ابتلي في أهله حتى رؤي فيهم ما يجل عن الوصف، وأخرهم ابتلي في أولاده بالبلايا، ثم بعد ذلك ابتلي هذا الإمام مرة أخرى ببعض الولاة وبعض معاصريه، ونفي من بلده حتى تُوفي -رحمه الله تعالى- ليلة عيد الفطر سنة 256ه وعمره اثنتين وستين سنة، وبوفاته -رحمه الله- طويت صفحة من صفحات العلماء العاملين لكن أثارهم لم تمت بل بقي علمه وكتبه ينهل منها العلماء والمسلمون فلا زالوا يقولون: رواه البخاري، أخرجه البخاري، وهذا هو البخاري -رحمه الله تعالى-، ويدعون له بالرحمة والمغفرة إلى أن تقوم الساعة إن شاء الله تعالى. رحم الله هذا الإمام رحمةً واسعة، ورضي عنه وجمعنا به في دار كرامته، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.  
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه من اتبع هداه، أما بعد: عباد الله: فإن سيرة العلماء المتقدمين، والمتأخرين دروس وفوائد وعبر، منها يستفيد السامع والقارئ، فمن تلك الفوائد العظيمة: شدة الاهتمام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءتها وحفظها، والعمل بها، والحرص والاجتهاد في العلم، فإن أجره عظيم، ويبقى لك أجره بعد وفاتك بالذكر الحسن، والأثر الطيب فهذا الإمام من وفاته إلى عصرنا هذا على ما  يزيد من أكثر من ألف ومائتي سنة، وطلبة العلم يدعون له، ويستفيدون من كتبه وعلمه، إنه فضل عظيم ومنقبة كبرى لا يمكن إحصاء من يقول: قال البخاري -رحمه الله-، ويكتبها عبر التاريخ الطويل، ناهيكم عن أجر حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاشتغال بالعلم، وفناء العمر في التعليم كل ذلك ناله هذا الإمام المبجل -رحمه الله تعالى رحمة واسعه-، وهذا دليل على إخلاصه وصدقه وتقواه، عن كثير بن قيس، قال: كنت جالسًا عند أبي الدرداء -رضي الله تعالى- عنه في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال يا أبا الدرداء أتيتك من المدنية، مدنية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، قال: فما جاء بك تجارة، قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره، قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماوات والأرض؛ حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر). فاجتهدوا يا رعاكم الله في دراسة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحرص على تعلمها، وتعليمها، والنظر في سيرته والعمل بأقواله. اللهم ثبتنا على السنة إلى أن نلقاك، اللهم ثبتنا على السنة إلى أن نلقاك، اللهم ثبتنا على السنة إلى أن نلقاك، ربنا ثبت قلوبنا على دين، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.