العاطفة إن لم تضبط بالشرع كانت عاصفة
العاطفة إن لم تضبط بالشرع كانت عاصفة
  | 3030   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: العاطفة إن لم تضبط بالشرع كانت عاصفة.
  • ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 19 ربيع الثاني 1445هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.

 
  • الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،  ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( [آل عمران:102].
  • أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله: إن من أصول الشريعة العظام ومنهج أئمة الإسلام أن المرجع في الحكم على القضايا والمسائل هو الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، لا يقدمون رأي أحد كائنا من كان على الدليل من القرآن والسنة، ولا يعتمدون على العقل والعاطفة دون النظر في الأمر والشرع، بل يجعلون النص والنقل مقدم على كل رأي وعقل، وعلى جميع العواطف إذا خالفت الكتاب والسنة، مع العلم أن العقل الصحيح والرأي السليم أبدًا لا يخالف الشرع الحكيم، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). ولا شك عباد الله أن الشرع لم يهمل العاطفة الإيمانية ولا الغيرة الدينية ولكنها ضبطها بضوابط شرعية بحيث لا تفسد أكثر مما تصلح ولا تُعارَضُ الأحكام الشرعية بها، وهذا ما لا يُدركه إلا من عرف الشرع ومقاصده، فَوَازَنَ بين الشرع والعقل والعاطفة، وهم علماء الشرع وأئمة السنة الكبار ممن عُرفوا بالعلم وصحة المنهج والاعتقاد.
  • عباد الله:
من تدبر ما حصل للنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابه في الحديبية وما صالح عليه المشركين علم أن الحكمة والعقل فيما شرعه الله ورسوله، فهذا رسول الله صالحهم على بقائهم في مكة خير البقاع واشترطوا على النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن من جاء منكم لم نرده عليكم. ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فتم الصلح فانظر ما قال عمر وما قال له النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وما قال له أبو بكر رضي الله عنه، فقد جاء في الصحيح عن أبي وائل. قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: أيها الناس! اتهموا أنفسكم. لقد كنا مع رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يوم الحديبية. ولو نرى قتالا لقاتلنا. وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب. فأتى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسول الله! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: (بلى) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال (يا ابن الخطاب! إني رسول الله. ولن يضيعني الله أبدا) قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا. فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب! إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالفتح. فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال (نعم) فطابت نفسه ورجع.
  • عباد الله:
كم ضل من ضل من أهل الأهواء والبدع بسبب تقديمهم للعاطفة على أحكام الشرع، فهؤلاء الخوارج المتقدمين والمعاصرين من التكفيريين من أعظم أسباب ضلالهم تلك الغيرة الزائفة على الحكم بما أنزل الله فكفروا الصحابة وقاتلوهم، وأحفادهم من خوارج العصر كفروا ولاة أمورنا من المسلمين بل كفروا العلماء والرعية ومن لم ير رأيهم، وقاتلوهم وفجروا في بلدانهم، بل لشدة عاطفة بعضهم الكاذبة قتل أباه وأخاه، بل قتل نفسه وفجرها وانتحر والعياذ بالله. وكم استغل أعداء السنة من الروافض العاطفة لنصرة أهل البيت، فكفروا الصحابة وطعنوا في عرض رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وادعوا تحريف القرآن، وعبدوا الأضرحة والمشاهد، وشتموا صحابته وأزواجه ليل نهار، بل وصل الأمر إلى استحلال دماء أهل السنة والعيث في بلادهم فسادًا. وكم استغل الصوفية العاطفة في محبة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ومحبة الأولياء زعموا، فَغَلَوْا في الخلق وأعطوهم صفات الخالق، من علم الغيب والتصرف في الكون، وتبركوا بالأشجار والأحجار وبنوا القبور وطافوا عليها وتوجهوا بالدعاء والعبادة لغير الله ونذروا وذبحوا لهم.
  • عباد الله:
يجب على المسلم أن ينتبه لمن يستغل عاطفته في توجيهه وكسبه ضد دينه وأمته ووطنه وولاة أمره، كم لُدغ المسلمون في القديم والحديث ممن يستغل العواطف حتى تكون عواصف مدمرة، يرجع بلاؤها وهلاكها عليه وعلى بلاد المسلمين، فكم استغلت التيارات الضالة والأحزاب المنحرفة عاطفةَ أهل المسلمين وما يحدث من جِرَاحٍ للمستضعفين في ملئ جيوب الأحزاب ورؤسائها عبر التبرعات الخيرية، وكم استغلوا تلك العاطفة في تجييش الشباب وإلقائهم في بؤر الفتن وأماكن الضياع وبلدان الهلاك حتى جعلوهم أحزمة ناسفة تضيع أرواحهم سدى، وقنابل موقوتة تنتظر وقتها لتقتل أهل الإسلام، بل تعلمنا الدروس الكثيرة مما فعلته القاعدة والنصرة والخوارج فيما مضى حين استغل رؤوس الضلال من الخوارج عندنا عاطفة الشباب وحماسهم لنصر المسلمين حتى ألقوا بأبنائنا للانضمام في صفوف الخوارج في تلك البلدان ثم رجعوا إلينا وإلى بلداننا يكفروننا ويفجرون ويقتلون الأبرياء ويسفكون الدماء المعصومة، وملؤوا قلوب الناس وعقولهم أن نصرة الإسلام والمسلمين تكون في الطعن في الولاة وتكفيرهم والطعن في العلماء والقدح فيهم، كما في الحديث عن الخوارج: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). يقول العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (العاطفة ربما تكون عاصفة،كثير من الناس يندفع وراء العاطفة بدون أن يفكر ويقدر وينظر في الأمور، وهذا الاندفاع وراء العاطفة سيحول هذه العاطفة إلى عاصفة، لأن العاطفة إذا لم يكن لها كوابح من الشرع والعقل أردت بصاحبها إلى الهلاك، لا شك. أنا لا أقول تكلم بلا عاطفة لأن الكلام بلا عاطفة قد يكون ميتا لكني لا أقول تكلم بعاطفة حارة تحرق ما أمامها. تكلم بعاطفة موزونة بالشرع والعقل. لو أننا سرنا وراء العواطف لهلكنا وأهلكنا. وما أكثر الذين يسيرون في هذا الزمن بالعواطف بدون أن ينظروا للنتائج وبدون أن يحققوا في الأمر وهذا خطر عظيم على دينهم ودنياهم) انتهى كلامه رحمه الله. فزنوا الأمور -عباد الله- بميزانها الصحيح، وارجعوا إلى علمائكم، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعملون. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.  
  • الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
  • عِبَادَ اللهِ:
السلامة عباد الله كل السلامة بالتمسك بالكتاب والسنة، والسير خلف علماء الأمة الكبار، والاجتماع على ولاة أمرك من المسلمين، فالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق خصوصا عن الفتن التي تموج كموج البحر هو الأمر الذي به النجاة، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، ففي أوقات الفتن فإن العلماء يعرفون مواقعها وضررها فيُحّذرون منها ويتكلم في الشرع بها، وأهل العاطفة الخاطئة يضلون عندها ويُضلون غيرهم، قال الحسن البصري: «الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»، قال قتادة بن دعامة السدوسي: «قد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن وينـزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً، وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير). والسلامة كل السلامة في البعد عن أهل البدع والضلال بشتى أصنافهم وأحزابهم، وعدم الاستماع لهم ومتابعتهم في مواقعهم وقنواتهم، قال ابن مسعود لما ذكر ما يُحدِثه الناس من البدع: (يَهْرَبُ بِقَلْبِهِ وَدِينِهِ، لَا يُجَالِسُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ)، واستمعوا لوصايا السلف في هذا الباب وغيره، قال أبو العاليةَ: «تعلَّموا الإسلامَ فإذا تعلَّمتمُوه فلا ترغَبوا عنهُ، وعليكم بالصراطِ المستقيمِ فإنه الإسلامُ، ولا تنحَرِفُوا عن الصراطِ يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسُنةِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وإيَّاكُم وهذهِ الأهواءَ».