- خطبة بعنوان: الزلازل والفيضانات إنذار من رب الأرض والسموات.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 30 صفر 1445هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ).
- أَمَّا بَعْدُ: فيا عباد الله:
إن دلائل ربوبية الله تعالى ووحدانيته في ألوهية كثيرة لا تحصى، فالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها تدل على قدرة الله وجبروته وملكه وقوته، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فهو سبحانه الذي يمسك السماء أن تقع، وسوَّاها فوقنا ورفع، (
وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، وهو الذي بسط الأرض وثبتها بالجبال وأرساها، فلا يقدر على دوام الأرض والسماء وإبقائهما إلا هو، (
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فما أعظم قدرة العزيز الجبار، ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد القهار. (
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
حين يعلم المسلم أن الله تعالى سخر له الكون كله وما فيه، لحكمة بالغة وغاية عظيمة، ألا وهي إفراد الله تعالى بالتوحيد، والبعد عن الشرك والتنديد، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فالواجب عليه أن يوحد الله ويرجوه، ويعبده بأنواع العبادات ولا يعصيه، فمن تفكر فاتقى الله ووحده، أثابه الله وشكر له، فأدخله الجنة ورحمه، ومن عاند وتكبر، عاقبه الله تعالى بالدنيا، وفي الآخرة عذابه أشد وأكبر. (
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
وإنَّ من حكمة الله تعالى في خلقه أن يغير من أحوال هذا الكون المعتادة ما به يتذكرون، وإلى ربهم يرجعون، وخصوصا عند تغير أحوال العباد من الطاعة إلى المعصية، {
وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً }، قال قتادة رحمه الله: (إن الله يخوّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون، أو يذكرون، أو يرجعون. ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه). [رواه ابن جرير].
فمن هذه الآيات ما يمرّ بنا عباد الله وبغيرنا من الرياح الشديدة، والأمطار الغزيرة والفيضانات، وما يحصل من زلزلة الأرض واهتزازها، وغير ذلك، قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: (فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد)، فالمؤمن يخاف أن تكون عذابا، فيعتبر ويتوب، ويرجع ويؤوب، وهكذا حال النبي
ﷺ حين تكون مثل هذه الآيات، فقد قال أنس رضي الله عنه: كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ في وَجْهِ النَّبِي
ﷺ. [رواه البخاري]، أي: مخافة أن تكون في الريح عقوبة. ولما كسفت الشمس في حياته قال: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ) [رواه البخاري ومسلم]، فهذا حال المؤمن مع هذه الآيات، فيخاف أن يصيبه ما أصاب الأمم قبله، فقد عُذبوا بمثل ذلك من الرياح والزلازل، قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
يجب علينا عند الزلازل والحوادث الكونية أن نكثر من الاستغفار والتوبة والرجوع، ونفزع إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة والصدقة، فقد أخبرنا الله تعالى أن الفساد وانتشار المعاصي والمنكرات من أسباب تغير أحوال البر والبحر وظهور الآفات والأوبئة والأمراض والزلازل وغيرها، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، قال السعدي رحمه الله: (فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة).
فانتشار الذنوب والمعاصي -عباد الله- وعدم إنكارها والأخذ على أيدي السفهاء المعلنين بها من موجبات البلاء وكثرة المصائب والوباء، وخصوصا الربا والزنا وتحكيم غير شرع الله تعالى، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
فاتقوا الله - عباد الله - واعتبروا بمثل هذه الزلازل والآيات، ولْنَتُب إلى رب الأرض والسموات، ولنتذكر قوله: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
- أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
- عباد الله:
إنّ هذه الزلازل لتذكرنا بيوم القيامة وقربه، فكثرة هذه الزلازل أخبر
ﷺ أنها من أشراط الساعة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
ﷺ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ). [رواه البخاري]. فمن أيقن بقرب الساعة وعلم ما يكون فيها من الأهوال وعظائم الأحوال، عمل لما بعد الموت، واستعد بالعمل الصالح وقدم الطاعات، واجتهد في البعد عن المعاصي والسيئات، فزلزلة الساعة أمر مهول، وخطب عظيم، (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
فلنأمر بالمعروف ولننه عن المنكرات، ولنترك المعاصي والسيئات؛ حتى لا يعمّنا الله بعقاب من عنده، فإن الذنوب والمعاصي تجلب العقوبات، فعَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ - رضى الله عنهن أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ » . وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا . قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ « نَعَمْ ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ » [رواه البخاري ومسلم].
إن قلوبنا ليعصرها الألم على ما حل بإخواننا في المغرب وليبيا من هذه الزلازل والفيضانات التي قدرها الله عليهم، فينبغي مد يد الدعاء والعون لهم، فمصابهم عظيم وخطبهم جسيم، ونُذّكِّر هنا بأن من مات بسبب سقوط البنيان عليه فله أجر الشهيد عند الله تعالى، والغريق شهيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله). [رواه البخاري ومسلم].