وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه
- خطبة بعنوان: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 11 ذي القعدة 1446هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
لقد منّ الله تعالى علينا بأن بعث إلينا خير الرسل وأفضل الأنبياء، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، فما من خير إلا دلّ الأمة عليه وما من شر إلا حذرها منه، ومن وصاياه الجامعة ومواعظه البليغة ما ذكره لنا الصحابي الجليل العرباض بن سارية رضي الله عنه مما رواه أهل السنن وصححه أهل العلم، فهو حديث جليل القدر عظيم النفع لمن اتبع ما فيه من الوصايا وسار على ما أرشد إليه من الهدى، فعن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ فَقَالَ « عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِى اخْتِلاَفًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». وفي لفظ: « قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إِلاَّ هَالِكٌ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ ».
فقد وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته بموعظة كأنها موعظة مودع، وسألوه الوصية فأوصاهم بوصايا جليلة، مَن تمسَّك بها نَجى، ومن تَنَكَّبَ عنها هَلَك، خصوصًا عند حدوث الفتن والشبهات، وتكاثر المغريات والشهوات، فأوصاهم أولا بتقوى الله، بأن تجعل بينك وبين غضب الله وناره وعقابه وقاية، قال ابن رجب: "التقوى هي جماع كل خير، وأساس وصايا الله للأولين والآخرين، وهي وصية جامعة تشمل امتثال الأوامر واجتناب النواهي". فعلى العبد أن يلزم الطاعات ومنها الصلاة ولا يتساهل فيها، فإنها عماد الإسلام، ويؤدي الزكاة، وعليه ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإيَّاه وقتل النفس المحرمة والربا، وفعل الفحشاء كالزنا، وغيرها من الذنوب والموبقات.
ثم أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، وهو أصل من أصول الإسلام، وحثَّ عليه في أحاديثَ كثيرةٍ سيّدُ الأنام، لما فيه من سدّ أبواب الفوضى والفتن، وبمخالفته ذهاب الأمن وانتشار المحن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "طاعة ولي الأمر في غير معصية هي من أعظم ما تحفظ به الجماعة، وتندفع به الفتنة". وقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوصِي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْأَئِمَّةِ بِالمَعْرُوفِ، وَيَحُثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ، ويحرم الخروج عليهم، وَيُرَغِّبُ فِي إِكْرَامِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَتَوْجِيهِ النَّصِيحَةِ إِلَيْهِمْ بِالرِّفْقِ وَالسِّرِّ مَعَ جَمْعِ القُلُوبِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ المُسْلِمُونَ يَدًا وَاحِدَةً، فَقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا؛ فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بأن من طال به الزمن، فسيرى الاختلاف والفتن، فأوصاهم بالتمسك بالسنن، والسير على درب الصحابة، والتمسك بسنة الخلفاء الراشدين، فالسير على السنة، وعلى هدي سلف الأمة، طريق الله إلى الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (قد تركتكم على البيضاءِ ليلِها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، مَن يَعِشْ منكم فَسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عَرَفتم من سُنَّتي وسُنَّة الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ). والعضّ عليها بالنواجذ كناية عن شدة التمسك والحرص عليها، حتى لا يُفرّط فيها.
وقد جاء التحذير الشديد والوعيد الأكيد على ترك السنة ومخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمخالفته صلى الله عليه وسلم سبب للعذاب والهلاك، )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وترك هديه سبيل للتفرق ومخالفة لتقوى الله، ومن عصى رسول الهدى فقد عصى الله، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي). [متفق عليه]، فمن أراد الهدى والسلامة من الهوى فعليه بالسنة فليتمسك بها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وَعَامَّةُ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ إنَّمَا تَطَرُّقُ مَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ).
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكم، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
ثم بين صلى الله عليه وسلم أن من أعظم أسباب النجاة، الحذرَ من البدع والمحدثات، ومجانبةَ أهل الأهواء والخرافات، (وإياكُم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة)، وقد كثرت في هذه الأزمان الفرق الضالة والمناهج الضيقة المنحرفة، فاحذروا منها غاية الحذر ففي اتباعها الشر والضرر، (وَأَنَّ هَـٰذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).
ولما كانت البدع من أعظم أسباب تفرق الأمة وتشتتها جاءت النصوص الكثيرة في التحذير منها ومن أهلها، واتفق السلف الصالح على التحذير منها، وقرروا هجر أهلها ومنابذتهم وبغضهم واجتنابهم، بل نقلوا الإجماع على ذلك. "فالفرقة ملازمة للبدعة، كما أن الاجتماع ملازم للسنة"، لذلك جاء التأكيد على النهي عنها في هذا الحديث وفي أحاديث أخرى كثيرة فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فقيل ما هي يا رسول الله قال: ما كنت عليه أنا اليوم وأصحابي) وفي لفظ "الجماعة".
فالمبتدعة والابتداع داء خطير في الأمة سبب لها كثيراً من الفتن والبلاء وكان مصدراً لتفريقها وتشتيتها حتى كانت ثلاثاً وسبعين فرقة منها واحدة ناجية فقط ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم ) رواه مسلم، أي احذروا أهل البدع ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة : (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) متفق عليه، ولهذا اهتم السلف بهذا الأصل العظيم وهو هجر أهل البدع أعظم اهتمام وأولوه بالغ العناية، فسيرتهم مليئة بهجر أهل البدع وإخزائهم وإذلالهم على ضوء الضوابط الشرعية في ذلك، قال أبو قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون) ويقول الإمام أحمد: (أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم) وسار السلف على ذلك والآثار عنهم كثيرة في التحذير من البدع والتحذير من أهلها على حد سواء.