قصة جريج العابد وما فيها من الفوائد
- خطبة بعنوان: قصة جريج العابد وما فيها من الفوائد.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 14 صفر 1447هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقصص جماعة من السابقين لنعتبر بها ونستفيد من أنبائها، ومما حكاه لنا قصة ذاك الرجل العابد الذي يقال له جريج، ففي الحديث المتفق على صحته عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النبي r قَالَ: « لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّى فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ أمي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ فَانْصَرَفَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّى فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاَتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ فَانْصَرَفَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّى فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: أَي رَبِّ أُمِّي وَصَلاَتِي. فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ.
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِىٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ - قَالَ - فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِىُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّىَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِىَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلاَمُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ الرَّاعِي - قَالَ - فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَقَالُوا نَبْنِى لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ لاَ أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ. فَفَعَلُوا....).
من فوائد هذه القصة: وجوب بر الوالدين وخصوصا الأم، وتقديم برهما وطاعتهما على نوافل الطاعات، فهذا جريج كان عليه أن يستجيب لنداء أمه مع تكراره ثلاث مرات، ومع هذا لعدم موازنته بين الطاعات، وعدم تقديمه الواجب على المستحب، دعت عليه أمه بأن تتعرض له المومسات الزانيات، فحصل ذلك، وهذا عباد الله انشغل بالصلاة عن طاعة والدته فكيف بمن ينشغل بالمجالس والألعاب والأصدقاء والأصحاب ويقدمهم على طاعة والديه وبرهما،هذا عباد الله انشغل بالطالالى،تد الذي يقال له جريجن لنعتبر بها ونستفيد من فبر الوالدين هو وصية الله تعالى حين قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، فبرُّهُما سبب لدخول الجنان، والإحسان إليهما سبيل لنيل رضى الرحمن، فما أعظم هذا العمل في الميزان!، وما أجله بين بقية الأعمال!، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ r : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا». قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَينِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ». [متفق عليه]. فهنيئا لمن أدرك والديه وأحسن إليهما غاية الإحسان، فذاك سبب لنيل الغفران، ودخول الجنان، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قال: قال رسول الله r قَالَ: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ)، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ). [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، فمن أدرك والديه أو أحدهما فليبادر إلى برهما والإحسان إليهما، وخصوصا حال كبرهما وحاجتهما إليك، فإنهما قد بذلا لك الغالي والنفيس لتسعد في دنياك، فيا سعادة من رضي عنه والداه، بعد رضى ربه ومولاه، وخصوصا أمك -يا عبدالله-، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة).
ومن فوائد القصة: خطورة أهل الشر والفساد والعصيان وأصحاب السوء وأعوان الشيطان، وأنهم لا يهدأ لهم بالٌ ولا يَقرُّ لهم قَرار حتى يفتنوا أهل الطاعة وينشروا العصيان والفساد، فالفاجر لا يرضى أن يبقى وحده في المعصية، بل يريد أن يجرّ الناس معه، حتى لا يشعر بالذنب وحده، أو ليبرر فعله القبيح، أو يستكثر أهل الباطل، أو يحسد أهل الطاعة على استقامتهم. قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، وكما قيل: ودت الزانية لو أن النساء كلهن زوان. ومن هنا على أهل الطاعة أن ينتبهوا لطرائق الشيطان ومكائد أهل العصيان فيثبت على تقوى الله ويبتعد عن التعرض للفتن كما فعل هذا العباد حين لم يلتفت إليها.
ومن فوائد هذه القصة: أن أهل الفجور والضلال والبدع والمعاصي حريصون أشد الحرص على تشويه صورة أهل الحق والإيمان وأهل الطاعة والسنة، فهذه البغي حين لم تجد مدخلا لفتنة هذا الرجل لجأت إلى تشويه صورته ورميه بالفاحشة وقذفه بالزنا، أو بغير ذلك من التهم لتشويه ما لديه من الحق، وإبعاد الناس عنه وعن طريقه وهديه، ولكن الله تعالى برأه بعد ذلك (والعاقبة للمتقين)، كما برأ يوسف عليه السلام حين رمته امرأة العزيز بالفاحشة، وكما برأ الله أم المؤمنين عائشة الطاهرة رضي الله عنها من فوق سبع سموات حين رماها أهل الإفك بالفاحشة. فاحذر أن تكون أمّعة في اتهام أهل الحق بما هم منه براء، أو رمي أهل السنة بما نزهم الله عنه. وتتبع الشائعات ونشرها، خصوصا مع سهولة انتشارها في عصرنا، قال تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ). أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مَنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَأُوصِيكُمْ- عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
ومن فوائد هذه القصة: أن العبد عند الابتلاء أو الضيق أو الهمّ يفزع إلى الصلاة، {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، وعَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى). [رواه أبو داود].
ومن فوائد القصة: أن فتنة النساء من أعظم الفتن التي حذّر منها الشرع، وبيّن خطرها على الدين والدنيا، وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية تُحذر منها، وتبين أن النساء من أعظم أسباب الفتن التي تصرف العبد عن طاعة الله إن لم يتحصن بالإيمان والورع. ففي البخاري ومسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي t عَنِ النبي r قَالَ: « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ ». اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. ...