- العنوان: فضائل الاستغفار
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 17 ربيع الثاني عام 1436هـ، في مسجد السعيدي بالجهراء.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،،،
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد،،
اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وتقربوا إليه –جل وعلا- بصالح الأعمال، وكثرة التوبة والاستغفار، فإن الله تعالى وهو اللطيف الخبير قد علم ما في الخلق من ضعف، وما هم عليه من قصورٍ ونقصٍ، ففتح لهم سبحانه باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجئوا إلى ساحات كرمه، وخزائن فضله، فهو سبحانه رحيمٌ بمن رجاه، قريبٌ ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبل عليه البشر كما قال –صلى الله عليه وسلم-:
«كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون» لكن السعيد من أعقب ذنبه بتوبةٍ، واستغفارٍ يمحوه فقد قال –عليه الصلاة والسلام- فيما رواه مسلم في صحيحه:
«والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم».
وإن من واسع فضل الله على العباد أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وأنه تعالى يغفر الذنوب كلها، فعلى العبد أن لا يقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه، وكثرت آثامه، فقد قال –سبحانه وتعالى-:
﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾[الحجر:56]، روى الترمذي وغيره عن أنسٍ بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول:
«قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا –أي؛ بملء الأرض خطايا- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة».
ولقد أمر الله تعالى رسوله e وهو أتقى الخلق بإخلاص الدين، وإدامة الاستغفار، فقال -عز وجل-:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾[محمد:19]، فكان e ملازمًا للاستغفار آناء الليل وأطراف النـهار، حتى قال عن نفسه:
«والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» رواه البخاري في صحيحه.
وإذا كثر الاستغفار في الأمة، وعم أفرادها، وصدر عن قلوب موقنةٍ مخلصة، دفع الله به عن العباد والبلاد ضروبًا من البلاء والنقم، وصنوفًا من الرزايا والمحن، كما قال عز وجل:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الأنفال:33].
إن من رحمة ربكم بكم ومزيد فضله عليكم، ما رتب على الاستغفار من عظيم الجزاء، وسابغ الفضل والعطاء، فإن كثرة الاستغفار والتوبة من أسباب تنـزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، والفلاح في الدنيا والآخرة كما قال –سبحانه وتعالى-:
﴿لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[النمل:46]، وقال -عز وجل-:
﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31].وروى أبو داود والترمذي وصححه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (كنا نعدُّ لرسول الله e في المجلس الواحد مائة مرة يقول:
«رب اغفر لي وتب علي رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم»، وهكذا شأن أرباب العزائم، وأهل الإيمان الخلص، يلجئون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة، والاستغفار، والندم صادقين مخلصين غير يائسين ولا مصرين قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم، وشهود أعمالهم )
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران:16] ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾[آل عمران:17] أولئك هم المتقون يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال
﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾[الذاريات:17] ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الذاريات:18]، فجمعوا بين العمل، وجمعوا بين الاستغفار.
وإن من آثار الاستغفار أنه سببٌ لنـزول الغيث المدرار، وحصول البركة في الأرزاق والثمار، وكثرة النسل والنماء، شكا رجلٌ للحسن البصري الجدوبة في الأرض فقال له: (استغفر الله), وشكا آخر إليه الفقر فقال له: (استغفر الله), وقال له آخر ادعوا الله أن يرزقني ولدًا فقال له: (استغفر الله), وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: (استغفر الله), فقلنا له: في ذلك فقال: ما قلت من عندي شيئًا, إن الله تعالى يقول:
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾[نوح:10] ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾[نوح:11] ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[نوح:12] والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعًا حسنا في الدنيا والآخرة, فيهنئون بحياةٍ طيبة, ويسبغ عليهم سبحانه مزيدًا من فضله ونعمه،
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾[هود:3].
فهذا يا عباد الله بعض فضائل الاستغفار ومنافعه جلاها لنا ربنا في كتابه, وأفصح عنها رسوله – صلى الله عليه وسلم– فيما صح من خبره تحمل أهل الإيمان وأرباب التقوى إلى البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار غير أن هذه المنح الإلهية, والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقًا وصدقا إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن, وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب, وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان, وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوبٍ الآثام, وعزم على ألا يعود على اقتراف شيءٍ من ذلك, هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله -عز وجل- بها عباده , ووعد عليها تكفير الخطيئات والسيئات, والفوز بالجنات , قال -عز وجل-:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾[التحريم:8].
يقول القرطبي -رحمه الله-: (قال علماؤنا الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار, ويثبت معناه في الجنان, وليس التلفظ بمجرد اللسان), فمن استغفر بلسانه, وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره يحتاج إلى الاستغفار آخر.
فاتقوا الله عباد الله وتذكروا الموت والقبر والآخرة, وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وأقبلوا على ربكم وأطيعوه واستغفروه وتوبوا إليه, ولا تستعظموا الذنب فعفوا الله أعظم
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[الزمر:53].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
تذكروا أن هذه الدار دار امتحانٍ وابتلاءٍ واختبار, فأحسنوا السير فيها إلى الآخرة, ولتحذروا التسويف والتفريط, ولا تكونوا ممن يرجوا الآخرة بغير عمل, ويؤخر التوبة لطول الأمل, فإن الآجال مغيبة, والموت يأتي بغتة, فلا يغتر أحدكم بحلم الله -عز وجل-, فإن الله يمهل ولا يهمل, وإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله, وإن من صدق الإيمان, كثرة التوبة والاستغفار على الدوام, فذلك هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, يقول أبو هريرة – رضي الله عنه – : (ما رأيت أكثر استغفارًا منه - صلى الله عليه وسلم -)، وإن مما صح عنه -صلى الله عليه وسلم - من جوامع الأدعية والاستغفار, ومما وجه الأمة إليه ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
«سيد الاستغفار أن يقول العبد (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت, خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك, ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت, وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي, فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت, من قالها من النهار موقنًا فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات من يومه قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة», وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«من قال " استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه " غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف» رواه أبو داود والترمذي وفي الصحيحين أنه كان يكثر – صلى الله عليه وسلم – أن يقول في ركوعه وسجوده:
«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي», وروى مسلم في صحيحه أن من آخر ما كان يقول – صلى الله عليه وسلم- في صلاته قبل التسليم :
«اللهم اغفر لي ما قدمت، وأخرت, وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت , وما أنت أعلم به مني, أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت».
اللهم اغفر لنا ذنوبنا, اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا, وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين, اللهم اغفر لنا ولولدينا, اللهم اغفر لنا ولوالدينا, واجعلهم من أهل الجنان يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار, وصلى الله وسلم على نبينا محمد ..