- خطبة بعنوان: ليال العشر غنيمة وأجر.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 19 رمضان 1445هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [[آل عمران 102].
ليال مباركة على الأبواب، وخير عظيم مقبل لكل عابد أواب، فيا سعادة من اغتنمها بالطاعات وسارع فيها إلى البر والخيرات، ويا خيبة من فرط فيها وتكاسل، وعن فضلها والعمل فيه تغافل، تلك ليال العشر الأخير من رمضان، خير ليال السنة على الإطلاق، فيها ليلة هي خير من ألف شهر، يكتب فيها للقائمين عظيم الثواب والأجر، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. فسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وبادروا إلى أسباب نجاتكم ودخول جنة ربكم، ]
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ( [المطففين:26].
- أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
كان نبينا
ﷺ إمام العابدين الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يجتهد في ليال العشر غاية الاجتهاد، فكان يحيي ليله بالصلاة وقراءة القرآن وذكر الله بقلبه ولسانه وجوارحه، وكان اجتهاده شامل لجميع أنواع الطاعات ومختلف القربات، حرصا على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة، وطلبا لليلة القدر وما فيها من الثواب والأجر، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ
ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وعلى المؤمن أن لا يغفل عن تذكير أهله وأولاده بعظيم فضل هذه الليالي، وترغيبهم بالعمل الصالح فيها، وإيقاظهم لقيام الليل، عسى أن ينالوا رحمة الله فيسعدوا ويغنموا، فقد كان النبي
ﷺ يوقظ أهله ويحثهم على الخير قولا وعملا، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ
ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. فمواسم الخير من نعم الله تعالى على عباده يزداد فيها الأجر، ويكثر فيها الخير، فمن استغلها فيما شرعه الله فهو من الموفقين، ومن فرّط فيها فقد فاته ما قد لا يدركه مرة أخرى، فما يدري العبد في أي ليلة يكتبه الله من العتقاء في هذا الشهر، فاغتنم ما بقي من الليالي فقد تكتب فيها من السعداء العتقاء؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
لعظيم فضل ليلة القدر أنزل الله تعالى فيها سورة كاملة، كرر فيها ذكر هذه الليلة دلالة على فضلها وتفخيما لشأنها، وبيّن ما يكون فيها من تنزل الملائكة، ويكثر تَنزلُ الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، وهي ليلة سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، فقال تعالى: )
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)( [القدر:1-5]. كما أشاد الله بفضلها ونوّه على بركتها في قوله: : )
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ( [الدخان:3]، وَمِنْ بَرَكَتِهَا: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُبَارَكَ أُنْزِلَ فِيهَا، فأنزل الله أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، وَوَصَفَهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: )
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( [الدخان:4]، يَعْنِي: يُفَصَّلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَـبَـةِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مَنْ أَوَامِرِ اللهِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ، ذَلِكَ تَقْديرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فَمَنْ وُفِّقَ لِنَيْلِهَا بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِيَامِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ؛ فَهُوَ السَّعِيدُ الرَّابِحُ، وَمِنْ حُرِمَهَا فَهُوَ الْمَغْبُونُ الْخَاسِرُ، قال مجاهد رحمه الله: (خير من ألف شهر عملها أو صيامها وقيامها وليس في تلك الشهور ليلة القدر)، وعن الحسن قال : (ما أعلم ليوم فضلاً على يوم ولا ليلة إلا ليلة القدر فإنها خير من ألف شهر).
من يرجو مغفرة الله لذنوبه وتكفيره لسيئاته، فليجتهد في العشر الأخير من رمضان في القيام والصلاة محتسبا بذلك الأجر من الله، لا يريد إلا وجه الله، قياما لا رياء فيه ولا سمعة، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ
ﷺ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. ومن هدي رسول الله
ﷺ سؤال الله تعالى العفو في تلك الليالي، فاحرص على ذلك لعل رحمة من الله أن تصيبك فتسعد في دنياك وآخرتك، فَقَدْ سَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا النَّبِيَّ
ﷺ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. قال العلامة ابن رجب رحمه الله: (وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحاً ولا حالًا و لا مقالًا فيرجعون إلى سؤال العفو). بمعنى: أنهم يتواضعون ويعترفون في تقصيرهم بحق ربهم ويخافون أن لا تتقبل أعمالهم فيسألون العفو من ربهم.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْخَاسِرِينَ الْمَرْدُودِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ.
فَأُوْصِيكُمْ – عِبَادَ اللهِ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ.
- مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:
لما أخفى الله تعالى تعيين ليلة القدر شرع نبينا ﷺ الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان رجاء نيل ما فيها من ثواب الله، وحرصا على أن يكون من أهلها وأن لا يحرم خيرها، وليتفرغ تلك الليالي لطاعة الله وذكره وعبادته، وَاعْتَكَفَ أَصْحَابُهُ وأَزْوَاجُهُ مَعَهُ وَبَعْدَهُ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتكَفَ العَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ؛ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي العَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ) [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
من حكم الله تعالى في إخفاء ليلة القدر وعدم تعيين ليلتها الاختبار والابتلاء لأهل الإيمان ليظهر الحريص على الطاعات المستغل لأوقات الخيرات والبركات من الكسلان الذي غلبته الشهوات وقدم دنياه على آخرته، فعلى المؤمن أن يستغل جميع الليالي أوتارها وأشفاعها في القيام والطاعات والذكر وأنواع القربات، يَقُولُ النَّبِيُّ
ﷺ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا]، وبعض الليالي أرجى من بعض لكنها تتنقل بين الأوتار والأشفاع تبعا لحكمة الله ومشيئته، يقول شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تِيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ)، فَاجْتَهِدُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فِي الخير، وسارعوا إلى الفضل والخير، فلا تدري لعلك لا تدرك رمضان آخر.