- خطبة بعنوان: نعمة العافية.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 4 ذي القعدة 1446هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
إن من أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يرزقه العافية في الدنيا والآخرة، العافية والسلامة من الأهواء والأدواء، من الشرك والكفران، والبدع والعصيان، ومن جميع الأسقام والأمراض، في نفسه وأهله وولده وماله، في معاشه ومعاده، فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مِحْصنٍ t قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ r: «
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]، فجمع النبي r بين الأمن والأمان والعافية في الأبدان فجعل ذلك خلاصة الدنيا وأهمّ ما فيها، ولأجل هذا من لم يستغل هذه النعم في طاعة الله بعد أن رزقه الله العافية والأمان والفراغ فهو الخاسر المغبون، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ r: (
نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ). [رواه البخاري].
ولأهمية العافية جاءت الوصايا الكثيرة من نبي الرحمة نبينا r لأمته في الحث على سؤالها والتضرع إلى الله تعالى بأن يتم عافيته على عبده المؤمن، واسمع وَصِيَّة النَّبِيِّ r لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ t فَقَدْ قَالَ لَهُ: »
يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ، سَلِ اللهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ« [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ]، وكان r ينهى الناس عن تمني لقاء الشر ويُذكّر بسؤال العافية، قال صلى الله عليه وسلم: «
يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ ».[رواه مسلم]، بل كان رسول الله r يسأل العافية في كل صباح ومساء كما جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ r يَدْعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: »
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي « [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]، وأمر العبد إذا أراد أن ينام أن يسأل الله العافية فيقول إذا أخذ مضجعه: «
اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِى وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ » [رواه مسلم].
ومن أعطي العافية فقد أعطي خيرا كثيرا وفضلا عظيما ونعمة من أعظم النعم، وإذا جمع الله له مع العافية العفو والمغفرة فهو الربح العظيم والثواب العميم، فعن معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قام أبو بكر الصديق على المنبر ثم بكى، فقال: قام فينا رسول الله r عام أول على المنبر ثم بكى فقال: (
سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية). [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
فسؤال الله العافية هو من أفضل الدعوات وأزكى ما يسأله العبد من ربّه، فعن أبي هريرة t: قال رسول الله r: (
ما من دعوة يدعو بها العبد أفضل من: اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة). [رواه ابن ماجة وصححه الألباني].
وقد نهى النبي r العبد عند البلاء أن يدعو بالعقوبة ويستعجلها على نفسها بل عليه أن يطلب من الله العافية في الدنيا والآخرة، فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ النبي r عَادَ رَجُلاً قَدْ جُهِدَ حَتَّى صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ (أي: ضعيف) فَقَالَ لَهُ:
« أَمَا كُنْتَ تَدْعُو أَمَا كُنْتَ تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ ». قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ معاقبي بِهِ في الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا. فَقَالَ النبي r: «
سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّكَ لاَ تُطِيقُهُ -أَوْ لاَ تَسْتَطِيعُهُ- أَفَلاَ كُنْتَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ». [رواه مسلم والترمذي واللفظ له].
بل كان r يستعيذ بالله تعالى وبصفاته ومنها معافاته من حلول غضبه وعقوبته، فكان يَقُولُ: «
اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ». [رواه مسلم]. بل كان يستعيذ بالله من تغير حال العبد من النعم إلى النقم والمصائب والآثام، ومن العافية إلى البلاء والأمراض والأسقام، ويستعيذ من غضب الله تعالى وجميع ما يسخطه، وهذا الدعاء مما ينبغي الاهتمام به وحفظه وكثرة دعاء الله به، وهو ما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ r: «
اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ». [رواه مسلم].
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكم، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
اشكروا الله تعالى على ما أنتم فيه من نعمة العافية والأمن والأمان، فإن ذلك من أعظم النعم واشكروا الله تعالى على ذلك، ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، فإن الأمر إلى الله، والدنيا والآخرة ملكه وحده، وهو ربنا لا ربّ لنا سواه، وقد وعد من شكره بالزيادة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، والذكر والاستغفار والاعتراف بنعمة الله تعالى من أعظم أسباب دخول الجنة، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«سَيّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولُ : اللَّهُمَّ! أَنْتَ رِبِّي لاَ إِلَهَ إِلاًّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ». قَالَ :«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنة ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوْقِنٌ بِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» [رواه البخاري].
قلّب يا عبدالله ما يكون في بلدان الفتن من ضياع الأمن والأمان وذهاب الدين ودمار الأوطان، وأنت في بلدك آمن وفي مسجدك عابد، فلا تقابل ذلك بالتسخط والكفران، بل قابله بالشكر والعرفان لله رب العالمين، ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةًۭ مُّطْمَئِنَّةًۭ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًۭا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ﴾