- خطبة بعنوان: شهر رمضان ميدان الطائعين.
- ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 11 رمضان 1442هـ في مسجد السعدي بالجهرا.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون].
تمضى الأيام والساعات، وتسير الأيام والسنوات، والناس بين مستغلٍ لها في الطاعات، وبين منشغلٍ في الشهوات والملذات، وها قد مَضَى ثُلث رمضان، والثُّلث كثير، مضى بما حَمَل من جهد الطائعين وقربات العابدين، ومضى حسرات على المقصرين الغافلين، فمن العباد من شَدَّ المئزر واجتهد بالتقرب إلى الله بأنواع القرب والإحسان، ومنهم من شد مئزره للعصيان وطاعة الشيطان، فمن أيهم أنت يا عبد الله؟!، أنت المحاسب!، وأنت المؤاخذ!، فالله غني عنا وعن أعمالنا، لا يُنفعه إحسانُنا ولا تضرُّه معاصينا،
[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ].
رأينا الناس في أول شهر رمضان يُسارعون إلى الصلاة، ويتسابقون إلى الخير وقراءة القرآن والجلوس في المساجد وأصناف الطاعات، ثم مع الأيام يبدأ الناس في التناقص، ولا يبقى ثابتا إلا من احتسب الثواب، وذكر الموت والحساب والعقاب، وعلم أن الميدان ميدان تنافس، وأن الجنة درجات، فكلما أكثر من الإحسان، وسابق للخيرات؛ كلما ارتفعت منزلته عند الملك القدوس، وعلت مكانته إلى جنة الفردوس، وعلى العبد أن يَعلم أن لله في كل ليلة من هذا الشهر عتقاء من النار، يكتب الله نجاتهم منها، فلا يكونون أبدا من أهلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
ﷺ:«
إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَهٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشّرِّ أقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَهٍ» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
لقد أمرنا الله تعالى في كتابه إلى المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الطاعات، لنكون من أهل جنةٍ عرضها الأرض والسموات، قال تعالى:
[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]، والمسارعة إلى المغفرة والجنة تكون ببذل الإحسان وتقوى الرحمن، وقال المولى:
[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]، ولذلك أثنى الله في كتابه على أهل المسابقة والمسارعة إلى الخيرات، وجعل منزلتهم في أعالي الجنات، فقال:
[وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ]، وقد بَقِيَ -عباد الله- من هذا الشهر عشرين يوما، فمن كان مقصرا فليبادر، ومن كان مجتهدا فليزدد من الخير، فالأيام سريعة والعمر لحظات.
قَدْ بَيَّنَ نَبيُّنا
ﷺ أَهَمِّيَّةَ الوَقْتِ لأهل الإيمان، وَحَثَّ عَلَى اسْتِغْلالِهِ وَاغْتِنَامِهِ في طاعة الرحمن، وَحَذَّرَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهِ وَتَضْييعِهِ بالعصيان، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ :«
اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَياتَكَ قَبْلَ مَوتِكَ» [رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ]، وَأَخْبَرَ أَنَّ العِبادَ مَسْؤُولُونَ أَمَامَ اللهَ تَعالَى عَمَّا أَفْنَوا فِيهِ أَعْمَارَهُمْ، وَقَضَوْا فِيهِ أَوقَاتَهُمْ، فكيف إذا كان وقتًا فاضلًا وزمنًا شريفًا كرمضان، فَعَنِ ابْنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ
ﷺ قَالَ: «
لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَينَ اكْتَسَبهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟» [رَواهُ التِّرْمذيُّ وَحَسَّنَهُ الألبانِيُّ].
فاجتهدوا -أيا المؤمنون- واغتنموا ما بقي من الزمان، فإنَّ النعم ومنها الصحة والفراغ زوَّالةٌ، فمن لم يشكرها بالقول الحسن والعمل بعبادة الله، وإلا داهمته الأمراض وكثرت عليه المشاغل، فحين ذاك يندم على ما فرّط، وإذا أقبل على الله في قبره، يتمنى أو يعود فيعمل الصالحات، حين يرى مقامه إما في جنة جعلنا الله وإياكم من أهلها، وإما في نار أجارنا الله وإياكم منها، قال سبحانه:
[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
اللهم اجعلنا من المقبولين، ولا تجعلنا من الخاسرين المردودين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.
فأوصيكم – عباد الله - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن تقوى الله خير الزاد ليوم المعاد.
إن من أعظم ما ينبغي الحرص عليه في هذا الشهر وغيره من الأوقات: الحرص على أداء الصدقة الواجبة وهي الزكاة، والصدقة المستحبة على الفقراء والمساكين وغيرهم من أهل الحاجة، بل إن العبد حال الاحتضار يتمنى أن يؤخِّرَه الله ليزداد من التَّصدق والصالحات، قال تعالى:
[وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]، قال ابن كثير: (كل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا، يستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه).
وعلى العبد أن يهتم بشأن زكاته وأحكامها، ويسأل عنها، ويستفتي أهل العلم عما يجهل، وعليه كذلك أن يجتهد في صرفها في مصارفها، فكثيرون لا يعلمون أن تذهب زكاتهم، ولا على من وزعت، ولا كيف تصرف فيها من أخذها، أنت المحاسب عند الله، وأنت المسؤول، فاعرف لمن تعطيها، واسأل عن مصارفها، ومن خير الصدقات ما جمع بين صدقة أو زكاة وصلة رحم كقريب فقير أو مسكين أو مدين.
عباد الله: نحن في دار مَمَرٍّ ولسنا في دار مَقَرٍّ، كلنا نسير إلى آجالنا، وعن قريب سنصل، وكلما مضى يوم مضى شيء من عمرنا، فاغتنموا أيامكم تسعدوا في آخرتكم.