- خطبة بعنوان: مواعظ للمؤمنين من قصة نوح عليه السلام أول المرسلين.
- ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 7 رجب 1442هـ في مسجد السعدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
لقد قصَّ الله تعال علينا قصة نوح عليه السلام، فتدبروها ففيها العظات والعبر، فقد مكث البشر بعد آدم عليه السلام قرونا طويلة وهم أمة واحدة على الهدى، ثم اختلفوا وأدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة، فكان قوم نوح عليه السلام قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم، فجاءهم الشيطان فأمرهم أن يصوروا تماثيلهم؛ ليتذكروا بها أحوالهم، فكان هذا مبتدأ الشر; فلما هلك الذين صوروهم لهذا المعنى جاء من بعدهم وقد زاد الجهل، فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء وَدًّا وسُواعا ويَغُوث ويَعُوق ونَسرا; قد كان آباؤكم يدعونهم ويستشفعون بهم، فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين، ثم بعث الله فيهم نوحا عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه، فقال:
{يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ورغبهم في خير الدنيا والآخرة فقال:
{يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
فلما بادأهم بالأمر بالإخلاص لله، وتسفيه آرائهم، وتخويفهم بعقوبات الدنيا والآخرة قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}، وطلبوا منه أن يطرد من كان معه من المؤمنين استكبارا منهم، فبين لهم أنه ليس به ضلال، وإنما به تزول الضلالة عن الخلق، وأنه رسول أمين على بينة من ربه وبراهين واضحة، وأن المؤمنين لا يحل طردهم، بل حقهم الإكرام والاحترام، وان الأمر ليس بيده
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا}.
لم يزل نوح عليه السلام يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهرا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا وإعراضا وتواصيا منهم على الإقامة على ما هم عليه من عبادة غير الله والتمسك بها، فقال نوح:
{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، فلما رأى أن التذكير لا ينفع فيهم بوجه من الوجوه; وأنه كلما جاء قرن كان أخبث مما قبله، قال:
{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}.
فأجاب الله دعوته، وأمره أن يصنع الفلك برعاية منه وحسن نظر وتعليم من الله له هذه الصنعة، وأخبره الله بتحتُّم إغراقهم، وأنه لا يخاطب ربه فيهم فإنهم ظالمون، وجعل يصنع الفلك، وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه، فقال لهم: إن تسخروا منا اليوم فإنا نسخر منكم إذا وقع الهلاك بكم، وأوحى الله إليه أنه إذا جاء ذلك الوقت وجعلت الأرض كلها تتفجر عيونا من كل جانب، وأمره أن يحمل من البهائم من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى نسلها؛ ويحمل معه جميع من آمن من رجال ونساء، والحال أنه ما آمن معه إلا قليل، وأمره أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول بالهلاك، فلما أركب جميع من أمر بهم قال لهم: سموا الله كلما جَرَت وكلما رَسَت؛ لأن الأسباب مهما عظمت فهي من لطف الله، ولا تمام لها إلا بالله.
فحينئذ فجر الله الأرض عيونا، وأمر السماء أن تصب الماء المنهمر الكثير، فالتقت مياه السماء بمياه الأرض، وساحت على الأماكن المنخفضة، ثم ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة، والسفينة تجري بهم في موج كالجبال تضرب يمينا وشمالا، وفي تلك الحال المزعجة رأى نوح ابنه الكافر الذي كان على دين قومه وقد اعتزل أباه حتى في هذه الحال، فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة، فناداه نوح مترقِّقا فقال:
{يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}. فتمادى به الغرور في تلك الحال التي تنقشع فيها الغياهب إلا عن القلوب المحجوبة; فقال:
{سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}. لم يخطر ببالهم أن المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال، فقال له نوح:
{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فلا يعصم جبل ولا حصن ولا غير ذلك إلا من رحم الله، ورحمته في تلك الحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح.
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} فكان ذلك الابن من المغرقين. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
أغرق الله جميع الكافرين، ونَجَّى نوحا ومن معه أجمعين، وكان في ذلك آية على أن ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حقٌّ، وأن من خالفه فإنه مبطل، ودليل على الجزاء في الدنيا لأهل الإيمان بالنجاة والكرامة، ولأهل الكفر بالهلاك والإهانة، فلما حصل هذا المقصود العظيم أمر الله السماء أن تقلع عن الماء، والأرض أن تبلع ما فيها، ونقص الماء شيئا فشيئا، واستوت السفينة بعد غيض الماء على الجودي، وهو جبل شامخ معروف في نواحي الموصل.
وهذا دليل على أن جميع الجبال قد غمرتها المياه وجاوزها الطوفان، وحزن نوح على ابنه فقال مناديا ربه مترقِّقا متضرعا يا رب:
{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، والوعد هو: أن أحمل معي أهلي، وأنت أرحم الراحمين، فقال له ربه:
{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. أي: الموعود بنجاتهم، لأن الله قيد ذلك بقوله:
{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، وقال:
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. أي: هذا الدعاء لابنك الذي على دين قومه بالنجاة.
{فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. وهذا عتاب منه لنوح وتعليم له وموعظة عن مثل هذا الدعاء الذي إنما حمله عليه الشفقة الأبوية، وإنما الواجب في الدعاء أن يكون الحامل له العلم والإخلاص في طلب رضى الله تعالى، فقال نوح:
{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فهبط وبارك الله في ذريته، وجعل ذريته هم الباقين; ومكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومكث بعد هلاكهم ما شاء الله، وكان من أولي العزم من المرسلين، ومن الخمسة الذين تدور عليهم الشفاعة يوم القيامة، وهو أول الرسل إلى الناس، وهو الأب الثاني للبشر، صلى الله عليه وعلى نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً.