فضائل أبي هريرة رضي الله عنه
- العنوان: فضائل أبي هريرة رضي الله عنه
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة جمعة ألقاها 8 صفر عام 1437هـ في مسجد السعيدي بالجهراء، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،،،
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد،،
عباد الله فإن تذاكر سير الصالحين مما يُحيي الله به القلوب، وتُشحذُ به الهمم، وتُشد به العزائم، ويُسهِلُ الاقتداء بهم في الخير، وإن سادة الخلائق بعد الأنبياء والمرسلين هم أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، إذ اصطفاهم الله واختارهم لصحبة خير خلقه فآمنوا به واتبعوا النور الذي أُنزل معه وجاهدوا في الله حق جهاده ، وحفظ الله بهم كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فبلغوه لمن جاء بعدهم كاملًا غير منقوص فرضي الله عنهم وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
وإن من أعلام الصحابة وساداتهم، علمًا، وحفظًا، وعبادةً، وزهدًا، وسماحةً وكرما الصحابيَّ الجليل أبا هريرة عبد الرحمن بن صخرٍ الدوسي -رضي الله تعالى عنه-.
نشأ هذا الصحابي الجليل يتيمًا في حجر أمه فكان يرعى الغنم في صغره، وكانت له هرةٌ صغيرة إذا رجع إلى البيت وضعها في شجرةٍ، وإذا أصبح حملها معه إلى المرعى فلعب بها فكناه أهله أبا هريرة فاشتهر بها حتى غلبت على اسمه واسم أبيه.
وقد شرح الله صدر أبي هريرة للإسلام فأسلم ومنّ الله –عز وجل- عليه بالهجرة فهاجر وقدم على النبي –عليه السلام- عام خيبر، وقدم بأمه معه وكانت على دين قومها مشركة وكان حريصًا على دعوتها للإسلام فكلمها مرةً عن الإسلام فأبت، وتكلمت بكلام سيءٍ، فلم يقابل إساءتها بمثلها، ولا أطفأ النار بالنار، ولكنه سلك مسلك الحكمة والرفق، وأطفأ النار بالماء، وتوصل إلى مراده بطلب الدعاء من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبكي وأخبره الخبر وقال: ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
«اللهم اهد أم أبي هريرة» يقول: فخرجت مستبشرًا بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما وصل إلى البيت وإذا بالباب مغلقٌ على غير العادة فلما سمعت حسه وصوته قالت: انتظر لا تدخل وإذا هي تغتسل فلما فرغت من غسلها لبست ثيابها، وفتحت الباب ثم قالت يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يبكي ولكن هذه المرة يبكي من الفرح بإسلام أمه واستجابة الله دعوة نبيه –صلى الله عليه وسلم-، فبشره ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، ثم قال أبو هريرة: ( يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«اللهم حبب عُبيدك هذا وأمه إلى المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين» يقول أبو هريرة –رضي الله عنه-: فما خُلق مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
فهنيئًا لمن أحب أبا هريرة وأمه في الله -جل وعلا- فإن حبهم علامة الإيمان، وقد أحب أهلُ السنة أبا هريرة كما يحبون سائر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنّ أهل الأهواء والبدع يبغضون أبا هريرة بغضًا شديدًا حتى بلغ الحال ببغضهم أن ألفوا الكتب في ذمه، والطعن فيه، وفي صدقه وديانته -رضي الله عنه وأرضاه-، وذلك أن أبا هريرة روى كثيرًا من الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تخالف ما هم عليهم من البدع والأهواء فعظم لذلك حقدهم عليه واشتد توجيه سهامهم إليه كيدا.
ولما استقر أبو هريرة في المدينة لزم النبي-صلى الله عليه وسلم- ملازمةً شديدة وحَبّب الله إليه حفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما كان في الصحابة أحدٌ أشدَّ عناية وحرصًا منه على حفظه، فلم ينشغل عن مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- بزراعةٍ، ولا تجارةٍ ولا بغير ذلك من شؤون الدنيا، ولما سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- مثنيًا ومنوهًا بشدة حرصه على العلم وطلبه
«لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لِمَ رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه»، ولما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- ملتفتًا عن الدنيا قال له:
«ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقال فقلت له: أسألك أن تعلمني مما علمك الله». وهذا هو طريق تحصيل العلم إنما يكون بعد توفيق الله بالتعب، والدأب، وعدم الانشغال عنه بملهيات الحياة ومغرياتها فإن العلم لا يُنال براحة الجسد.
كان أبو هريرة –رضي الله عنه- في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- شديد الفقر والحاجة وكان مع ذلك صابرًا محتسبًا، ومن المواقف التي تدل على شدة ما كان فيه ما قصّه عن نفسه –رضي الله تعالى عنه- فقال: أصابني جهدٌ شديدٌ، فلقيت عمر بن الخطاب، فاستقرأته آيةً من كتاب الله، فأجابني ثم دخل بيته، فمشيت غير بعيدٍ فخررت لوجهي من شدة الجهد والجوع، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على رأسي، فقال:
«يا أبا هريرة» فقلت: لبيك رسول الله وسعديك، فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي، فانطلق بي إلى رحله -أي بيته- ، فأمر له بعُسّ -أي قدحٍ كبير- من لبنٍ فشربت منه، ثم قال:
«عُد يا أبا هر» فعدت فشربت، ثم قال:
«عُد» فعدت فشربت، حتى استوى بطني فصار كالقِدْح.
ولما تحسنت أحواله ووسع الله عليه لم يتكبر، ولم ينس ما كان فيه فقد كان يومًا لابسًا ثوبين من الكتان، حسنين ملونين، فامتخط في أحدهما فقال: بخٍ بخٍ أبو هريرة يتمخط في الكتان! وهو نوع من الثياب الجيدة ثم قال: لقد رأيتُني وإني لآخِرُّ فيما بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حجرة عائشة مغشيًا علي، فيجيء الجاءِ فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنونٌ، وما بي من جنونٍ ما بي إلا الجوع”
عباد الله، لقد أعطى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- لطلاب العلم درسًا عظيمًا حتى يتعلموا، ويبلغوا منازل العلماء، لقد تحمل الجهد والجوع في سبيل التفرغ لملازمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحفظ حديثه، وليس هذا من باب الكسل وحب البطالة، فكانت العاقبة حميدة حيث صار أكثر أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- روايةً للحديث عنه، لم يبلغ أحدٌ منهم في الرواية ما بلغ إليه حتى وصل عدد الرواة عنه أكثر من ثمانمائة راوٍ فرضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الحديث والسنة خير الجزاء. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد،،
عباد الله، لقد كان أبو هريرة –رضي الله تعالى عنه- آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر معلمًا للناس الخير، وكان يخاف أن ينشغل الناس بالدنيا عن طلب العلم الشرعي فكان يتعاهدهم بالتذكير بفضل العلم وشرفه وشدة الحاجة إليه، فقد دخل السوق مرةً والناس مشغولون بالبيع والشراء فناداهم قائلًا: "يا أهل السوق، ما أعجزكم" قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: "ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه" قالوا: وأين هو؟ قال: "في المسجد" فخرجوا سراعًا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة –رضي الله تعالى- لهم حتى رجعوا، فقال لهم: "ما لكم؟" قالوا: يا أبا هريرة أتينا المسجد، فدخلنا، فلم نر فيه شيئًا يقسم، وظنوا أنه شيءٌ من الدنيا والمال فقال لهم أبو هريرة: "أما رأيتم في المسجد أحدا؟" قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرءون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة –رضي الله تعالى عنه-: "ويحكم، فذاك ميراث محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-".
ومن صفاته -رضي الله عنه- الكرم والسخاء، وإكرام الضيوف يقول الطُفاوي –رحمه الله-:"نزلت على أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- بالمدينة ستة أشهرٍ، فلم أر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا أشد تشميرًا، ولا أقومَ على ضيفٍ من أبي هريرة".
وكان حريصًا أن يكون هو وأهل بيته من أهل العبادة وقيام في الليل، وكان حريصًا على صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ، وكان يُبادر بها أول الشهر؛ لأنه لا يدري ما يحدث له في آخره يقول أبو عثمان النهدي –رحمه الله تعالى-: تضيفت أبا هريرة سبعًا -أي؛ نزلت عنده ضيفًا مدة سبعة أيام- فكان هو وامرأته وخادمه يتعاقبون الليل أثلاثًا يصلي هذا ثم يُوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يرقد ويوقظ هذا قال: قلت يا أبا هريرة كيف تصوم؟ قال: "أما أنا فأصوم من أول الشهر ثلاثًا فإن حدث لي حادث ٌكان آخر شهري".
وكان يجزئ ليله ثلاثة أجزاءٍ جزءٍ لقراءة القرآن، وجزءٌ للنوم، وجزءٌ لمراجعة حفظ الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما أحسن ليله وأحسن نهاره.
ومع ما كان عليه من التقوى والعبادة والعلم والفضل فقد كان شديد الخوف من الله –سبحانه تعالى- فقد بكى في مرضه، فقيل: ما يُبكيك؟ قال:" ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بُعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعودٍ، ومَهبطُهُ على جنةٍ أو نارٍ، فلا أدري أيهما يؤخذ بي".
عباد الله، إن سيرة هذا الإمام الكبير سيرةٌ واسعة مليئةٌ بالعظات والعبر والفوائد، ولكن هذه نبذةٌ مختصرةٌ منها أسأل الله –عز وجل- أن ينفعني وإياكم بها وبما سمعنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار وصلى الله وسلم على نبينا محمد.