- العنوان: المتكلمون في المهد .
- ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 17 ذي القعدة 1432.
العنوان: المتكلمون في المهد . ( الخطبة الأولى ) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: عباد الله..إن الله تَعَالَى هو القادر على كل شيء المتصرف في الكون بما يشاء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فله القدرة الكاملة والحكمة التامة في كل شيء، والله على كل شيء قدير. ومن آيات الله تَعَالَى في خلقه وبراهينه على ربوبيته وإلوهيته أن جعل بعض الأطفال في المهد يتكلمون بكلام معجز يعجز عنه كثير من البالغين، فأعطاهم الله -سُبْحَانَهُ- القدرة على الكلام وهم في سن الرضاعة ليشهدوا لله -تَعَالَى- بعظيم قدرته وحدانيته في إلوهيته، ومما جاء في القرآن وصح في السنة النبوية ممن تكلموا في المهد والطفولة. فأولهم عيسى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فإنه لما تعلت مريم من نفاسها أتت بعيسى قومها تحمله، وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها فأتت غير مبالية، ولا مكترثة فقالوا: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾[مريم:27]. أي عظيمًا وخيمًا -وأرادوا بذلك البغاء-حاشاها من ذلك- ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾[مريم:28]، أي لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر وخصوصًا هذا الشر الذي يشيرون إليه، فأشارت لهم إليه أن كلموه -إلى عيسى- لأنها نذرت للرحمن صومًا عن الكلام، فلما أشارت إليهم بتكليمه تعجبوا من ذلك وقالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾[مريم:29] لأن ذلك لم تجري به عادة ولا حصل من أحد في ذلك السن، فحينئذ قال عيسى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- و هو في المهد صبي: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾[مريم:30]. فخاطبهم بوصفه بالعبودية وأنه ليس له من صفة الإلوهية ما يستحق أن يكون بها إلهًا أو ابن إله تعالى الله عن قول النصارى علوًا كبيرًا. ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾[مريم:30]. فأخبرهم بأنه عبد الله وأن الله علمه الكتاب وجعله من جملة أنبيائه وهذا من كماله لنفسه، ثم ذكر تكميله لغيره فقال: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا*وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾[مريم:31 ،32] فلما تم له الكمال، ومحامد الخصال قال: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾[مريم: 33] فهذه معجزة عظيمة وبرهان باهر على أنه رسول الله وعبد الله حقًا، وفيه إبطال لدين النصارى. والثاني ممن تكلم في المهد هو صاحب جريج، وورد ذكره في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، و صاحب جريج». وكان جريج رجلًا عابدًا فاتخذ صومعة -أي مكانا للعبادة- فكان فيها فأتته أمه و هو يصلي -أي وهو يذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقالت:يا جريج، فقال: يا رب .. أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب .. أمي و صلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب .. أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته؛ حتى ينظر إلى وجوه المومسات -أي الزانيات- فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له و -انظر كيف يكيد أهل الفساد يكيدون أهل الخير- فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت من الراعي، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعنه في بطنه -أي غمزه في بطنه- و قال: يا غلام من أبوك؟ فقال الصبي وهو في المهد: فلان الراعي، فقال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال : لا أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا. ففي هذه القصة إكرام الله تعالى للصالحين، وفيه وجوب بر الوالدين، وفيه آية باهرة من آيات الله حيث تكلم الصبي ببراءة الراهب وهو في المهد. وممن تكلم كذلك في المهد ما ورد في تكملة هذا الحديث المتفق على صحته، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وبين صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة -أي مظهر حسن– فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الصبي الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، يتكلم و هو في المهد، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها، قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون لها: زنيت، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع و نظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعًا الحديث –أي كلمت الأم ابنها– فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت، سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، فقال الصبي: إن ذاك الرجل كان جبارًا فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها». فانظر كيف تكلم الصبي مع أمه وهو في المهد، يرشدها إلى العبرة بالمخابر وليس بالمناظر، وبالبواطن وليس بالمظاهر، فأكثر الناس أصبح ميزانهم هو المال والجاه، وليس الصلاح والاستقامة. فهؤلاء هم الذين تكلموا في المهد مما وردت فيهم الأحاديث الصحيحة. وورد عند مسلم في قصة أصحاب الأخدود وقصة الغلام الذي كان قد آمن بالله وكان يزور الراهب، وأنه لما قتل قال الناس: آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، أي أنه حفر حفرًا وأشعل فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها، أو قيل له: اقتحم -أي ألقوه في النار- ففعلوا؛ حتى جاءت امرأة و معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها -أي خافت أن تقع فيها- فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق. فلفظ مسلم فيه أنه صبي، وفي مسند الإمام أحمد وابن أبي شيبة -رحمهم الله- ورد لفظ ب(بابن لها ترضعه) فيضاف هذا الصبي لمن تكلم وهو صغير أيضًا -وإن كان بعض العلماء قال: بأنه صغير ولم يكن في المهد- و سواء كان هذا وذاك فهو من آيات الله تعالى، ودلائل وحدانيته. وأما يذكره بعض العلماء والمفسرين من كلام غير هؤلاء في المهد فليس بصحيح، يقول العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-: ما يذكر في بعض كتب التفسير وغيرها أنه تكلم في المهد أيضًا إبراهيم ويحيى ومحمد -صلى الله وسلم عليهم أجمعين- فليس له أصل مسند إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاعلم ذلك. اللهم أصلح لنا ذريتنا واجعلهم لنا قرة أعين، أقول ما تسمعون، و استغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ( الخطبة الثانية ) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد: عباد الله .. إن الله تعالى و رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يذكر لنا القصص إلا من باب العبرة والعظة لنستفيد من فوائدها ونرجع إلى عبرها ليس للتسلية واللهو، فتدبر ما في هذه القصص التي ذكرتها تجد فيها فوائد كثيرة وعبرا عديدة، قال -عز وجل-: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْباب﴾[يوسف:111]. ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الأعراف:176]. ثم إن على المسلم أن يتحرى الصحة في كثير من القصص المروية، والحكايات التي يتناقلها الناس في الوسائل المعاصرة، فلا تنشروا قصة من القصص إلا بعد التثبت من صحتها وسلامتها، فقد تكون القصة في الطعن في الإسلام وأهله وأنت تنشرها -ولا تشعر بسبب تقصيرك في البحث والسؤال عن صحتها- ثم عليك الحذر من القصاصين الذين يذكرون القصص المكذوبة في أشرطتهم ومحاضراتهم ويقولون: من أجل مصلحة الدعوة. فالكذب عباد الله لا يجوز بحال إلا ما استثناه الشرع، ثم كيف تكون لدعوتك ثمرة إذا بدأتها بالكذب والقصص الخيالية؟ أليس في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يكفي لكل ذي عقل؟ ثم إن هذا الصنف من القصاص قد حذر منهم السلف والعلماء أشد التحذير،كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يخرج من المسجد إذا كان فيه هؤلاء القصاصين ويقول: ما أخرجني إلا القصاص، و لولاه ما خرجت وكان أحمد -رحمه الله تعالى- يقول أكثر الناس كذبًا القصاص والسؤال. فعليكم عباد الله بالقرآن والسنة الصحيحة، واحذروا البدع والمحدثات والأحاديث المكذوبة والموضوعة، فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. اللهم ثبتنا على السنة اللهم، إنا نسألك الثبات؛ حتى الممات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.