- العنوان: الغنيمة الكبرى العشر الأواخر.
- ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 19 رمضان 1437هـ ونقلت مباشرا على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،،،
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد،،،
عباد الله، لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة، والخصائص العظيمة فمن خصائصها:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم
- «كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ». رواه مسلم، وعنها –رضي الله تعالى عنها- أنها قالت:
«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله». متفقٌ عليه، ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلة هذه العشر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها، وهذا شاملٌ للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاةٍ، وقرآنٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وغيرها؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يحيي ليله بالقيام، وقراءة القرآن، والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه؛ لشرف هذه الليالي وطلبًا لليلة القدر التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومما يدل على فضيلة العشر من هذه الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُوقظ أهله فيه للصلاة والذكر حرصًا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة بها من العبادة، فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله -عز وجل-، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله فما هي إلا ليالٍ معدودة ربما يُدرك الإنسان فيها نفحةً من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كثيرًا من المسلمين يمضون هذه الأوقاتِ الثمينة فيما لا ينفعهم، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل، فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوتوا على أنفسهم خيرًا كثيرًا لعلهم لا يُدركونه بعد عامهم هذا أبدًا، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده إياهم عن سبيل الله -عز وجل- وإغوائه لهم يقول المولى –سبحانه وتعالى-:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾[الحجر:42]، ومن خصائص هذه العشر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف فيها، والاعتكاف لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله –سبحانه وتعالى-، وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول –سبحانه وتعالى-:
﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة:187]، واعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتكف أصحابه معه وبعده فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأَوَّلَ من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط ثم قال:
«إني اعتكف العشر الأَوَّل ألتمس هذه الليلة ثم أعتكف العشر الأوسط ثم أوتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر –أي؛ ليلة القدر- فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف»، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
«كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله -عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده». رواه مسلم، وعنها أيضًا أنها قالت:
«كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشَرةَ أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوما». متفقٌ عليه يقول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: لا أعلم عن أحدٍ من العلماء خلافًا أن الاعتكاف مسنون والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله في مسجدٍ من مساجده طلبًا لفضله وثوابه وإدراكًا لليلة القدر، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة.
عباد الله، في هذه العشر المباركة ليلة القدر التي شرفها الله -عز وجل- على غيرها، ومنّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾[الدخان:3] ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان:4] وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، ومن بركتها أن هذا القرآن المبارك أُنزل فيها ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمرٍ حكيم، يعني؛ يُفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة ما هو كائنٌ من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمرٍ حكيمٍ من أوامر الله المحكمة المتقنة التي ليس فيها خللٌ، ولا نقصٌ،
﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[الأنعام:96] قال تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر:1] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾[القدر:2] القدر بمعنى؛ الشرف والتعظيم أو بمعنى التقدير والقضاء؛ لأن ليلة القدر شريفةٌ عظيمة يقدر الله فيها ما يكون في السنة، ويقضيه من أموره الحكيمة، وأن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾[القدر:2] والاستفهام هنا للتفخيم والتعظيم
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[القدر:3] يعني؛ في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه
﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾[القدر:4] الملائكة عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلًا ونهارا لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفتُرُون يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والروح: هو جبريل -عليه السلام- خصه بالذكر لشرفه وفضله
﴿سَلامٌ هِيَ﴾[القدر:5] يعني؛ أن ليلة القدر ليلة سلامٍ للمؤمنين من كل مخوفٍ لكثرة من يعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم
﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[القدر: 5] يعني؛ أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر؛ لانتهاء عمل الليل به، ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفقٌ عليه فقوله:
«إيمانًا واحتسابًا» يعني؛ إيمانًا بالله، وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابًا للأجر، وطلبًا للثواب، وهذا حاصلٌ لمن علم بها، ومن لم يعلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيمانًا واحتسابا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد،،
عباد الله، ليلة القدر في رمضان؛ لأن الله –عز وجل- فيها، وقد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان قال تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر:1]، وقال –عز وجل-:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[البقرة:185]، وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». متفقٌ عليه
. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». رواه البخاري
. وهي في السبع البواقي أقرب لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-
«أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ, فَقَالَ النبي صلى اللهُ عليه وسلَّم : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ – يعني اتفقت - فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ, فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ». متفقٌ عليه.
ولمسلم عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ –يعني ليلة القدر- فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة السابع والعشرين لحديث أُبَي ابن كعبٍ -رضي الله عنه- أنه قال:
«وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهَا، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». رواه مسلم .
ولا تختص بليلةٍ معينةٍ في جميع الأعوام بل تتنقل فتكون في عامٍ ليلة سبعٍ وعشرين مثلا، وفي عامٍ آخر تكون ليلة خمسٍ وعشرين تبعًا لمشيئة الله –سبحانه وتعالى-، وحكمته، ويدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-:
«التَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» رواه البخاري.
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح: أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشر الأخير وأنها تنتقل . انتهى كلامه –رحمه الله-.
ومن الخطأ تسأل الناس في الليالي الأشفع ليلة الثاني والعشرين، والرابع والعشرين وهكذا فقد نص بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-، ونسبه لأبي سعيدٍ الخدري –رضي الله تعالى عنه- إلى أنها قد تكون حتى في الأشفاع أيضًا للحديث الماضي وهو قوله –صلى الله عليه وسلم-:
«التَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى» يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: "وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعها، وقد أخفى الله –سبحانه وتعالى- علمها على العباد؛ رحمةً بهم ليكثر عملهم في طلبها، واختبارًا لهم أيضًا ليتبين بذلك من كان جادًا في طلبها حريصًا عليها ممن كان كسلان متهاونا.
عباد الله، ليلة القدر يُفتح فيها الباب، ويُقرب فيها الأحباب، ويُسمع الخطاب، ويُرد الجواب، ويُكتب للعاملين فيها عظيم الأجر
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[القدر:3] فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب، اللهم إنا نسألك أن تتقبل صيامنا، اللهم تقبل صيامنا، اللهم تقبل قيامنا وصلاتنا ودعائنا يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.