الشفيعان (الصيام والقرآن)
الشفيعان (الصيام والقرآن)
  | , 6001   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: الشفيعان (الصيام والقرآن).
  • القاها:  الشيخ د. خالد بن ضحوي الظفيري.
  • المكان: خطبة جمعة ألقاها 5 رمضان لعام 1437هـ بمركز رياض الصالحين بدبي، نسأل الله أن ينفع بها الجميع.

 
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،،، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد،،، عباد الله، ها نحن في رمضان، شهرِ القرآن، حيث أنزله الله -سبحانه وتعالى- في هذا الشهر، قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان:3]. فاختار الله -عزَّ وجلَّ- هذه الليلة المباركة، ألا وهي ليلة القدر، لتتشرف بنزول كلامه المبارك، فالتقت البركة على أمر قد قدر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1]. نزل به جبريل -عليه السلام-، بأمر خالقه، فأشرقت الأرضُ بكلام ربنا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يتدارس القرآن مع جبريل -عليه السلام- في رمضان، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان جبريل -عليه السلام-، يلقاه كل ليلة، كل ليلةٍ في رمضان، يعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن". إن هذا القرآن -عباد الله-، الذي بين أيدينا، يَسَّره الله -عزَّ وجلَّ- لنا، هو حَبْلُ الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك، فلا ينجو من عذاب الله، ولا يفوز برحمة الله، إلا من تمسك بهذا القرآن العظيم الذي بين أيدينا. يسره الله -عزَّ وجلَّ- وسَهَلَه علينا، وأمرنا بالعمل به، والتمسك به، فيه الهُدى والنور، فيه الشفاء وفيه الرحمة وفيه الهداية، يقول المولى -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإسراء:9-10]. هذا هو القرآن، يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:82]. إنه حجةُ الله -عزَّ وجلَّ- علينا، قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19]. قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ». فلنرجع إلى كتاب ربنا، ولنتأمله، ولنتدبره، يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص:29]. عباد الله، إنَّ القرآن والصيام، يشفعان لأهلهما بين يدي الرحمن سبحانه، فتُدْرِكُ الصائم القارئ شفاعتان: الصيام يشفع له لصيامه، والقرآن يشفع له لتلاوته وقيامه به، قال -صلى الله عليه وسلم-: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ، يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، إني مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَة بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: ربي إني مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. فَيُشَفَّعَانِ». وقد كان القرآن، يأخذ الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، من أوقات الصالحين في رمضان، فإذا دخل عليهم شهر الصوم، عمَّرُوا أوقاتهم، بقراءة القرآن، فكان الخليفة الراشد، عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقول: "ما أُحِبُّ أن يأتيّ عليَّ يومٌ ولا ليلة، إلا أنظر في كلام الله -يعني في المصحف-". وهذا الإمام مالك -رحمه الله تعالى- كان إذا دخل رمضان أقبل على القرآن، وغيره كثيرٌ من سلف هذه الأمة، وأئمتها كان القرآن، محلُ نظرهم، وعنايتهم، وقراءتهم، خصوصًا في هذا الشهر المبارك. معاشر المسلمين، إن تلاوة القرآن، بها انتفاعٌ للقلوب، وتقويمٌ للاعوجاج، وإصلاحٌ للنقص، تُقْبِلُ عليه القلوب خاشعة، والأفئدةُ راغبة، والعقولُ واعية، تتفكر في معانيه، وتنظر في أحكامه، وتمتثل لأوامره، يقول تعالى مبينًا حال المؤمنين، مع كتاب ربهم -سبحانه وتعالى-: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:23]. يتلونه، فيزداد إيمانهم إيمانا، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2]. فليس المقصد التباهي بكثرة الختمات وتكثير ذلك، إنما العبرة بصلاح القلب، واستقامة الجوارح، والانتفاع بكلام العظيم الحكيم، فكم غيَّر القرآن، من حياةِ أناسٍ، فأصبحوا أعلامًا، بَتَفُكِرهم، في عظيم معانيه، ونظرهم، في دقيق تفسيره، قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر:21] أي: خاضعًا، مُتَذَلِلًا، من خوفه من الله -سبحانه وتعالى-. هذا إلى جانب الأجر العظيم، والثواب الكريم لقراءته، قال -صلى الله عليه وسلم-: من «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ، بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا،أما إني لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف، وَلَامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْفٌ». نُردد حروفه، ونتدبر كلماته، فتتضاعف الحسنات، وتتنزل الرحمات، وتزداد الهداية، قال-سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:52] أي: جعلناه هاديًا وذا رحمة. أيها الصائمون، يحرص المسلم، على استغلال وقته في رمضان، فما يدري العبد، أيُ حسنةٍ تُدْخِلُهُ الجنة، استعينوا بالله على قضاء الأوقات في الطاعات، وفارقوا المُنكرات، وابتعدوا عنها في كل مكانٍ وزمان، واجتهدوا أن تملئوا صحائفكم، بما يسركم رأيته يوم بعثكم، تقربوا إلى ربكم، بما يحب منكم، من تلاوة قرآنٍ، من تلاوة قرآنٍ، كلٌ يقرأ، بقدر استطاعته، وُيداوم على ذلك، فقد سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَال: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»". وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» أي: الزموا أنفسكم، بما تستطيعون فعله، ولا تنقطعوا عنه، واجتهدوا بالصدقةِ والبرِ والصلةِ والعلم، تعبدوا لله بالصبر، عما تشتهيه الأنفس، من المحرَّمات والمحظورات، واعلموا أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا. أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.  
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه أما بعد،،، عباد الله، نحن في شهرٍ مبارك، شرع الله -عزَّ وجلَّ- فيه الصيام والقيام، وقراءة القرآن والصدقة والبر، وجميع أنواع الإحسان، وحثَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم-، على الإكثار من الخيرات فيه، حيث يُنادي مُنادٍ، يا باغيَّ الخير أَقْبِل، ويا باغيَّ الشَر اقْصِر، فالسعيد من استغله في طاعة الله، والخاسر من مرت عليه الليالي والأيام المباركات، دون أن يملأها بالطاعات. فاللهم وفقنا لمرضاتك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك. ألا وصلوا وسلموا، على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرا». اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم إنا نسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا. اللهم اجعلنا من أهل القرآن وخاصته. اللهم نور بيوتنا بالقرآن، وشَفِعه فينا واجعلنا ممن يحل حلاله، ويحُرِّم حرامه. اللهم اجعلنا ممن يصوم رمضان إيمانًا واحتسابا. اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين. اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ونسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حقٌ علينا وللمسلمين أجمعين. اللهم وفق رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد، وأدم عليه موفور الصحة والعافية، واجعله يا ربنا في حفظك وعنايتك، ووفق اللهم نائبه وولي عهده الأمير، لما تحبه وترضاه، وأيِّد إخوانه حكام الإمارات. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. اللهم إنا نسألك المغفرة والثواب، لمن بنى هذا المسجد ولوالديه، ولكل من عمل فيه صالحًا وإحسانا، واغفر اللهم لكل من بنى لك مسجدًا، يُذْكَرُ فيه اسمك، أو وقف وقفًا، يعود بالخير على عبادك، أو تنتفع به ذريته من بعده. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيًا ولا محروما. اللهم احفظ دولة الإمارات من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وادم عليها الأمن والأمان يارب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.