البنيان المرصوص، وبعض أحكام الصيام
البنيان المرصوص، وبعض أحكام الصيام
  | , 2604   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: البنيان المرصوص، وبعض أحكام الصيام.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 2 رمضان عام 1436هـ، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

 
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأما بعد، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار أما بعد.. عباد الله، اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين، واحذروا الفرقة وتجنبوا الاختلاف في الدين يقول -عز وجل-: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46]. عباد الله، لقد أكرمنا الله -عز وجل- بهذا الدين، وشرفنا به من بين العالمين فهو أُس وحدتنا وأصل عزتنا، وينبوع نهضتنا. فلقد علمنا الله به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وكثَّرنا به بعد القلَّة، وأعزَّنا به بعد الذلة بعد أن لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون للتوحيد دليلًا، ولا للوحدة سبيلًا فجمع الإسلام على التوحيد شملهم، ووحد على الحق رايتهم حتى أضحوا خير أمةٍ أخرجت للناس كما وصفها ربها -سبحانه وتعالى-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:110]. وقد ذكرهم الله -عز وجل- بهذه النعمة العظمى، وأمرهم أن يشكروه عليها، ويحافظوا على ثمراتها، ويتجنبوا كل ما يذهب ريحهم ويفرق جماعتهم، ويسلب نعمتهم فقال عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران:103]. عباد الله، وكذلك يريدنا الإسلام أن نكون أمةً واحدة في ظل راية حقٍ واحدة، لا عصبية تفرقنا، ولا عنصرية تمزقنا، ولا أهواء تزيغ بنا، ولا اختلافاتٍ تذهب بقوتنا نستلهم من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا –صلى الله عليه وسلم- أُسّ الوحدة وصدق الانتماء، ومن سيرة سلفنا نستضيء دروب العزة والإخاء في ظل راية الدين نعيش التوحيد والإيمان. فلله در الإسلام إذ لم يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين سيد ومسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]. لقد قاتلوا أعداءهم على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم، وقارعوا خصومهم كأنهم بنيانٌ مرصوص رهبانٌ بالليل، فرسانٌ بالنهار، وكأن الله -عز وجل- عناهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]، وفي الحديث النبي –عليه الصلاة والسلام-: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وشبك بين أصابعه. عباد الله، إن الحفاظ على وحدة المسلمين فرضٌ شرعي، وواجبٌ حتمي لا يجوز التفريط فيه بحالٍ من الأحوال إذ الاجتماع على الحق وسيلةٌ لقوة الأمة وتماسكها، وأداةٌ لحفظ كيانها ودفع شر أعدائها، وهو استجابةٌ لأمر الله -عز وجل- بالاعتصام بدينه، والنهي عن التفرق فيه إذ يقول الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:103]. فالمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، قال –عليه الصلاة والسلام-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كمَثَل الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». عباد الله، ألا وإنّ من أهمّ ما يحفظ للأمّة قوّتها، ويبقي لها وحدتها: التّمسّك بدين الله -عزَّ وجلّ-، كتابًا وسنّة، علمًا وعملًا، فهمًا وسلوكًا، آدابًا وأخلاقًا، والتّعاون على البرّ والتّقوى والإيمان، ونبذ التّعاون على الإثم والمعصية والعدوان ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة:2]. وممّا يجب علينا: الحفاظ على شوكة الأمّة ومقوّمات الشّعب الواحد بإيثار المحبّة والرّحمة، والطّاعة والنّصرة بين الحاكم والمحكوم على أساسٍ من طاعة الله -تبارك وتعالى- وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وقيام الرّاعي بحقوق الرّعيّة والسّهر عليها، وقيام الرّعيّة بالسّمع والطّاعة لوليّ أمرها؛ عن عوف بن مالكٍ –رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله يقول: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»"، وجاء عن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسر واليُسر، الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِم". عباد الله، إنّ من أخبث أسلحة أعدائنا اليوم محاولتهم إلهاء المسلمين عن واجباتهم وشغلهم ببعضهم، وإثارة الفتن والعصبيّات، وإذكاء نار الفرقة والانقسامات ومن هنا كان واجبًا على جماعة المسلمين أن يتيقّظوا لما يدبّره لهم الأعداء من المكايد والمؤامرات، ويحيكونه من الدّسائس وإثارة النّعرات، وأن يحفظوا وحدتهم الإيمانيّة، ويتمسّكوا بأخوّتهم الإسلاميّة. كما قال –عليه الصلاة والسلام- «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَاناً، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». عباد الله، إنّ لحمل السّلاح وانتشاره بين أيادي السّفهاء والمجرمين والعابثين عواقب وخيمة وآثارُا جسيمة، فهو مخالفةٌ لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولوليّ الأمر الّذي أمرنا بطاعته كما أنّ فيه نوع إرهابٍ للنّاس، وترويعٍ للآمنين، وإيذاءٍ للمؤمنين وهذا ما حرّمه الله –عزَّ وجلّ-، كما أنّه يحصل منه كوارث وإصابات وقتلٌ وجراحات، ويعتبر تبذيرًا وإسرافًا في إنفاق المال في غير موضعه. نذكّر إخواننا بأنّ (الحملة الوطنيّة) لجمع الأسلحة والذّخائر غير المرخّصة حمايةً لأمن الوطن واستقراره، وصون مكتسباته، ومحافظةً على سلامة وأمن المواطنين، والحدّ من نسب الجريمة والعنف والاستهتار، والتّهاون في استخدام السّلاح نذكّر بأنّ هذه الحملة ستنتهي قريبًا فعليهم أن يطبقوا هذا الأمر طاعةً لأولي الأمر. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه أما بعد.. عباد الله، لقد كان ومازال شهر رمضان فرصةً عظيمة ليجدّد المرء إيمانه، ويقبل على ربّه، ويستزيد من الخير، ويأطر نفسه على العمل الصّالح أطرا، ويدفعها إليه دفعًا. ومن هنا جاءت الشّريعة مرغّبةً في كثيرٍ من أنواع الطّاعات والقربات في السّنة في السنة كلّها عمومًا، وفي رمضان خصوصًا. فرمضان فرصةٌ عظيمة للعفو والصّفح عن النّاس، وإزالة العداوة والبغضاء من القلوب، والشّحناء من الصّدور. فعلى أهل الضّغائن أن يصطلحوا، وأن يحرصوا على ذلك. فكم من خيرٍ حرمه المرء بسبب التّهاجر بغير حقٍ؟ وكم من طمأنينة وانشراح صدرٍ زال بسبب التّدابر؟. وممّا يندب المرء إليه في هذا الشّهر: الحرص على اغتنامه في صنوف العبادات، وأنواع الطّاعات فرمضان لم يشرع إلّا لهذا الأمر العظيم، كما قال –عزَّ وجلّ-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]. عباد الله، ممّا يندب في هذا الشّهر: الحرص على قراءة القرآن، وتدبّره والوقوف عند معانيه، ومدارسة العلم، وحضور مجالس الذّكر، وممّا ينبغي الحرص عليه: الحرص على تكرار ختم القرآن فهو شهر القرآن والصّيام، فهما عبادتان مقترنتان، كما دلّت على ذلك الأدلّة، قال –عزَّ وجلّ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ [البقرة:185]. وَقَالَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم-:«إِنَّ الصِّيَامَ وَالْقُرْآنَ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فإذا كان كذلك، فعلينا أن نحرص على الالتصاق بالقرآن في هذا الشّهر، وأن لا نضيّع ساعاته في غير تلاوةٍ وتدبّرٍ وتأمّل؛ كما كان السّلف يفعلون فقد ثبت عنهم أنّهم كانوا يختمون القرآن في هذا الشّهر قراءةً وتدبّرا، أسوتهم في ذلك نبينا –صلى الله عليه وسلم- كان جبريل يعرض عليه القرآن في كلّ رمضان، وكأنّه يوجّه إلينا درسًا عمليّا في عدم الغفلة عن كتاب الله في هذا الشّهر تحديدًا. وممّا يندب إليه: الحرص على قيام اللّيل بدءًا من صلاة التّراويح والتّهجّد، وأن لا يحرم نفسه من أداء هذه العبادة الجليلة؛ قال –عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». عباد الله: ومن العبادات المؤكّدة في هذا الشّهر: الحرص على الصّدقة بصورها المختلفة بدءًا من أداء الزّكاة الواجبة، ثمّ الحرص على الصّدقة المستحبّة كإطعام الطّعام وتفطير الصّوّام؛ فإنّ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِماً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن آداب الصّيام: تعجيل الفطر، وتأخير السّحور، والبدء بالإفطار على الرّطب فإن لم يجد فـ(بالتّمر)، فإن لم يجد فـ(بالماء)، وأن يكون سحوره على تمرٍ، وأن يجتهد في الدّعاء حال صومه فإنّ للصّائم دعوةٌ مستجابة زمن صومه جميعًا. وممّا يندب إليه كذلك في هذا الشهر: الحرص على أداء العمرة؛ فإنّ: «الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-. وممّا يندب إليه: الحرص على كلّ عملٍ صالحٍ يقرّب العبد إلى ربّه كالذّكر والاستغفار، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والحرص على التّبكير إلى المساجد، والاعتكاف فيها وغيرها من صور البرّ والإحسان. استعينوا بالله إخوتي في الله واستغلوا كلّ لحظةٍ من لحظات هذا الشّهر بالعمل الصّالح، وعدم الفتور فإنّها أيّامٌ تمضي وليالٍ تسرع، والموفّق هو الّذي عرف لهذا الشّهر قدره واجتهد فيه. اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية، اللهم إنَّا نسألك الإعانة على الطاعة، اللهم أعنَّا على صيام رمضان وقيامه، اللهم أعنَّا على تلاوة القرآن وختمه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.