- العنوان: أحكام شهر شعبان
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 1 شعبان 1435هـ ونقلت مباشرا على إذاعة موقع ميراث الأنبياء
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعين ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، أما بعد: عباد الله، أعلموا أننا في شهر خيرٍ وبركة، ألا وهو )شهر شعبان( ذاك الشهر العظيم، وهو موسم من مواسم الأعمال الصالحة، التي يغفل الناس عنه بين رجبٍ ورمضان، ولا يعمل فيه إلا من وفقه الله تعالى، فعن أسامة بن زيد قال:" قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شهر شعبان، قال: «ذلك شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجبٍ ورمضان، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»" رواه النسائي وحسنه الألباني. ففي هذا الحديث أن هذا الشهر شهر شعبان، فيه تُرفع الأعمال الصالحة إلى الله -عز وجل-. وإن من الأعمال الصالحة التي تُرفع إلى رب العالمين: الصوم، فيُستحب الصوم في هذا الشهر، وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصوم أكثر هذا الشهر؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان" وقالت أيضًا رضي الله عنها: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر منه من شعبان" رواهما البخاري في صحيحه. ففي هذه الأحاديث عباد الله استحباب صوم أيامٍ من هذا الشهر، شهر شعبان اقتداء بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، ورجاء أن تُرفع أعمالنا فيه إلى الله -عز وجل-، فتدركنا رحمته ومغفرته سبحانه وتعالى، وأما ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» رواه أبو داود والترمذي. فقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، فقد ضعفه كثيرٌ من علماء الحديث، كأحمد وابن معين، وحتى على القول بتصحيحيه كما ذهب إليه ابن القيم والألباني، وابن باز رحم الله الجميع، فإن المراد به النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف، أما من كان صام أكثر الشهر فقد أصاب السنة. يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "وحتى لو صح الحديث، فالنهي فيه ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة فقط" كما أخذ بذلك بعض أهل العلم، إلا من كانت له عادة بصوم، فإنه يصوم ولو بعد نصف شعبان. عباد الله لقد ورد في فضائل هذا الشهر كذلك أنه ورد في ليلة النصف من شعبان من طرقٍ كثيرة أحاديث صححها أهل العلم. فمن هذه الأحاديث ما ورد عن معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن». وعن أبي ثعلبة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يطلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين، ويمهل الكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوا» فهذه الأحاديث فيها (إثبات مغفرة الله -عز وجل- في ليلة النصف من شعبان لعباده) إلا لمشركٍ بأي نوعٍ من أنواع الشرك، ولمشاحنٍ بينه وبين أخيه هجرانٌ وقطيعةٌ لأمرٍ من أمور الدنيا. عباد الله إنه لينبغي لكلٍ منا أن يقف مع نفسه وقفةً صادقة في ضوء هذه الأحاديث، ويحاسب نفسه، فعله أن يكون قد أبتلي بشيء من الشرك سواء صغر أو كبر، وليتدارك نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله، إن كان قد وقع منه شيءٌ من الشرك، ولا تقل إني بريء من هذه الشركيات، ولا يوجد عندي منها شيءٌ، أو لا يمكن أن أقع فيها، ويكفي أنني أعيش في بلادٍ يعم فيها التوحيد، فإن هذا غرورٌ وجهلٌ من قائله، فلست أكثر توحيدًا من نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، خليل الرحمن، فهل تعرف بماذا دعا ربه؟ لقد دعاه بشيءٍ عظيم فاستمع معي أيها المؤمن إلى دعاءه فيما ذكره الله -عز وجل- عنه في كتابه حيث قال: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ(35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾[إبراهيم:35-36]؛ لقد خاف خليل الرحمن على نفسه، وعلى بنيه الشرك بالله، وعبادة الأصنام، وهو الذي كسرها بيده الشريفة لماذا أيها المؤمنون؟ لماذا خاف على نفسه كل هذا الخوف؟قال: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾[إبراهيم:36]. فهذا السبب هو الذي دعاه إلى دعاء ربه أن ينجيه وبنيه من هذا البلاء العظيم، وهذا الشر المستطير الذي وقع فيه كثيرٌ من الناس في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول إبراهيم التيمي -رحمه الله-: "ومن يأمن الفتنة والبلاء بعد إبراهيم". وفي هذه الأزمنة عباد الله نرى من بعض من ينتسبون إلى الإسلام من يعبد القبور، ويطلب منها الشفاعة من دون الله، ويذهب لها من دون الله، ويذهب لها ويذبح لها من دون الله راجيًا بركتها، أو متقربًا لأصحابها المدفونين تحت الثرى، أو تراه يذبح وينذر لأصحاب القبور عند العتبات المنجسة بالشرك والكفر، فصدق عليهم قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[يوسف:106]. ومن مظاهر الشرك في العبادة: ما يفعله بعض من لم يعرف حقيقة التوحيد من تعظيم الأولياء، والخضوع والذل لهم، والخوف منهم وتعظيمهم أكثر من تعظيمهم وخوفهم وذلهم لله -عز وجل-، فتراه بين يدي شيخ طريقته، أو سيده كالميت بين يدي غاسله، لا يخالف له أمرًا، ولا يعصي له قولًا، يعتقد أنه مطلعٌ على ما في قلبه، وأن هذا الولي له قدرةٌ على الكشف، وهذا كفرٌ أكبر والعياذ بالله. ومنهم من ينذر لغير الله، ومنهم من يحلف بالولي أو بالنبي، أو بحياة الآباء والأجداد والأبناء، ومنهم من يذهب إلى الكهنة والعرافين والمشعوذين والسحرة والمنجمين، فيطلبون منهم الشفاء من الأمراض، أو معرفة ماذا سيحصل لهم في مستقبل حياتهم، ومنهم من يقرأ الأبراج التي تأتي في المجلات والجرائد، فيخبرون بأمورٍ هي من الغيب. وكله من الكهانة وإدعاء علم الغيب الذي هو مضاد لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو كفرٌ أكبر والعياذ بالله، فهو إن صدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، وإن سأله بلا تصديقٍ له لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «من أتى عرافًا فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» رواه مسلم. ومن مظاهر الشرك المنتشرة بين الناس: تعليق التمائم الشركية، والتعاويذ البدعية في العنق أو في البيت، أو في السيارة، أو في غيرها، أو تعليق صورة حيوان مجسم زاعمين أنها تطرد عنهم العين، وتدفع عنهم الحسد، فهذا يعلق خيطًا في رقبة ابنه، أو في يده، وذاك يضع أورقًا كتبت عليها طلاسم، وأمورٌ شركية، وكلامٌ غير مفهومٍ مما يتقرب به إلى الجن، وهذا كله شركٌ بالله -عز وجل-؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: «من علق تميمة فقد أشرك». ومن الناس من يشرك بالرياء والسمعة، وإظهار العمل الصالح أمام الناس من أجل أن يمدحوه أو يقولون: فلانٌ صالح، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت أنه عنه أنه قال: «من سمع سمع الله به، ومن رائى رائى الله به» رواه مسلم. فتراه يصلي رياءً، ويقرأ القرآن رياءً ويذكر الله رياءً، فهذا قد أتعب نفسه، وأسخط ربه كيف يرجو من يفعل ما تقدم من الأعمال أن ينالوا مغفرة الله وهم واقعون في الشرك صغيره أو كبيره؟! أما الصنف الآخر من الذي حُرموا تلك الليلة من تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب فهم (المتشاحنون وأهل الحقد) وهذا يدل على خطورة الشحناء، والتباغض بين المسلمين، والشحناء هي حقد المسلم على أخيه المسلم من أجل هوى في نفسه، فترى الأخ لا يكلم أخاه، والجار لا يخاطب جاره، وذلك يمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة كما جاء في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِرُوا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم. وقد وصف الله -عز وجل- المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[الحشر:10]. وقد فسر الإمام الأوزاعي -رحمه الله- الشحناء التي تمنع من المغفرة بالذي يكون في قلب شحناء وبغض لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنه أيضًا أنه قال: "المشاحن هو كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة"، وقال ابن ثوبان: "المشاحن هو التارك لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، الطاعن على أمته، السافك لدمائهم" كما هو حال الخوارج وغيرهم. قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "وهذه الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم بدع الخوارج والروافض ونحوهم، فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنوع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم، أو تبديعهم، أو تضليلهم، ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء؛ لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه" انتهى كلامه -رحمه الله-. قال بعض السلف: "أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصحية للأمة" وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، فأقل يا عبد الله حتى يُقال وأعفوا عن المسيء حتى يعفو الله عنك، اللهم إنا نسألك المغفرة والسلامة من الذنوب وجميع الأهواء والبدع، أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن أتبع هداه أما بعد: عباد الله مما ينبغي التنبيه عليه مما سيأتي في منتصف هذا الشهر أمورًا احدثها الناس، ومنها: اعتقاد بعضهم أن ليلة النصف من شعبان هي المعنية بقوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان:4]، فيقدر فيها الآجال، والأرزاق، وهذا خطرٌ ولكن المقصود بالآية هي ليلة القدر، لا ليلة النصف من شعبان. ومنها: تخصيص بعض الناس ليلة النصف من شعبان بالصلاة أو قيام الليل دون سائر الأيام، وإحياء تلك الليلة بالذكر والدعاء وقراءة القرآن، فهذا بدعةٌ في الدين ضلالة، لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه، وهذا العمل مردود على صاحبه لا يقبله الله -عز وجل- كما في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أما حديث: «إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها» فهو حديث باطلٌ مكذوبٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقله فلا يحل العمل به، وكذلك الاحتفال بهذه الليلة، والتوسيع على الأهل في المطمع والمشرب والملبس، ونحو ذلك، وتخصيص تلك الليلة فقط دون سائر الأيام والليالي لاعتقاد فضلها ومزيتها على غيرها، وهذا مما لم يأتي في الشرع الحنيف فعله، ولا استحبه أحدٌ من الصحابة ولا التابعون رحمهم الله، وما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا. عباد الله احذروا (البدع صغيرها وكبيرها) فهي تؤدي إلى تفريق الأمة، وتشتيتها، وقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك فقال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:105]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[الأنعام:159]. وإن انشغال المرء ببدعته عما هو مشروعٌ يؤدي إلى هدم السنة حتى تموت السنن، وتحيا البدع، والعياذ بالله، وإن فيما جاء في كتاب الله، أو صح عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الشريعة لكفايةٌ وهداية لمن هداه الله إليهما، واستغنى بهما عن غيرهما، يقول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما مات إلا وقد أكمل الله -عز وجل- به الدين، وأتم به النعمة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾[المائدة:3]. اللهم إنا نسألك الثبات على السنة، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا من أهل المغفرة والصيام، اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.