جريان الحسنات بعد الممات
جريان الحسنات بعد الممات
  | 12941   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: جريان الحسنات بعد الممات.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 19 صفر - عام 1441هـ في مسجد السعيدي.

 
  • الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا،)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71]. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ r، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. عِبَادَ اللهِ: إن من رحمة الله بعباده ومن عظيم فضله وآلائه، أن فتح لهم أبواب الخيرات، وطرق كسب الأجور ورفع الدرجات، في الحياة وبعد الممات، فعلى العبد أن يجتهد غاية الاجتهاد فيما يرضي الله ما دام في دار التكليف والعمل، ولا يحقرن من المعروف شيئًا، فرب عمل صالح يكون سببًا لنجاته ورفعة درجاته، ومن تلك الأعمال ما يأتيك أجره ويكتب لك ثوابه وأنت في قبرك، بينما أهل القبور عن العمل منقطعون، وعلى ما قدموا محاسبون ومجزيون، وأنت في قبرك تتوالى عليك الحسنات، وترتفع لك الدرجات، بسبب ما قدمته لنفسك من هذه الأعمال الجاريات. وإن من هذه الأعمال ما جمعها النبي r في حديث واحد، فعَن أَنَسٍ t، قال: قال رَسُول اللهِ r: (سبع يجري للعبد أجرهن من بعد موته وهو في قبره: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته). [رواه البزار وحسنه الألباني]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ). [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني]. وروى مسلم في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). عباد الله: لقد جمعت هذه الأحاديث عددا من الأعمال اليسيرة التي إن عملها العبد في هذه الحياة مخلصا لله تعالى راجيا ثوابه، جرت عليه الحسنات في الحياة وبعد الممات، فمنها: العلم الشرعي تعلمه وتعليمه، فهو ميراث الأنبياء من أخذه أخذ بحظ وافر، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وكما قال r: (مَنْ يُرِد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) [متفق عليه من حديث معاوية t]، فأهل العلم يهدون العباد إلى حسن العبادة وصحيح الاعتقاد، يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويرشدونهم إلى صراط مستقيم، فهم كما قال الإمام أحمد: (يدعون من ضَلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس). أيها المسلمون: ومن أجلّ الأعمال الصالحات التصدق بسقي الماء للمحتاجين، وإرواء ظمأ المساكين، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ t قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ» [رواه النسائي وحسنه الألباني]، ويدخل في ذلك الصدقات الجارية: من حفر الآبار، وشق الجداول من الأنهار، لسقي الناس والبهائم والطيور والزروع، وسدّ حاجاتهم من الماء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِن الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). [متفق عليه]. فهذا العبد نال مغفرة الله ورحمته بسبب سقيه بهيمة، فكيف بمن يسقي البشر، ويعين المسلمين على ذلك. ومن الأعمال التي يجري أجرها للمسلم بعد وفاته: غرس الأشجار ذوات الظل والثمار، فما أكل منها آدمي أو بهيمة أو طير إلا كان له به أجر، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ). [متفق عليه]. عباد الله: وبناء المساجد أو المشاركة في بنائها من أجل الأعمال التي يتنافس فيها المتنافسون ويتسابق إليها الصالحون، فما صلّى فيها مصل ولا ذكر الله فيها ذاكر ولا تُلي فيها من قرآن إلا كان لبانيها أجر وثواب، فتتوالى عليه الحسنات وترتفع له الدرجات ويبني الله عز وجل له به بيتا في الجنة، عن عثمان بن عفان t قال: إني سمعت رسول الله r يقول: «من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة»، وفي رواية: «بنى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» [متفق عليه]، وكل بناء بُني لمساعدة الفقراء أو المحتاجين فهو مما يجري للمسلم أجره في حياته وبعد موته، كبناء دور للأيتام أو مساكن لابن السبيل والغرباء المسافرين أو أوقاف يكون ريعها لله تعالى ولأعمال البر والخير. ومن أعمال البر والإحسان، التصدق بالمصاحف لقراءة القرآن، فلمن وزعها أو طبعها أو نشرها أجر كلما قرئت ونظر فيها، لقوله في الحديث: (أو ورّث مصحفًا)، فما أعظمه من أجر، وما أكبره من ثواب، خصوصا إذا علم المسلم أن لقارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات، وأن القراءة من المصحف من أسباب نيل محبة الله تعالى، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ r:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأ فِي الْمُصْحَفِ» [رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني]. واحرص -يا عبدالله- أن تتصدق وتعمل هذه الأعمال في حال حياتك، ولا تنتظر أن يتصدق عنك غيرك بعد مماتك، فالصدقة حال الصحة والحياة أفضل، وأجرها أعظم وأجزل؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ). [متفق عليه]. فاجتهدوا -أيها المسلمون- في فعل الخيرات، وكسب الأجور والحسنات، لتستمر أجوركم في الحياة وبعد الممات. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكم، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
  • الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ. عباد الله: إن من أعظم إنعام الله تعالى وإحسانه على العباد أن يرزقهم الذرية الصالحة التي تعينهم على الطاعة، وتقوم ببرهم والإحسان إليهم، وتكثر من الدعاء والاستغفار والتصدق لهم، وهذا مما يبقى للمسلم بعد موته، فحين ينقطع عمله في الحياة يبقى له استغفار ولده بعد الممات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟!، فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ). ‌[رواه ابن ماجه وصححه البوصيري]، ولفضيلة الولد الصالح شُرع للمسلم أن يجتهد في بذل أسباب صلاح الذرية، ويجتهد في سؤال الله تعالى ذلك بقوله: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). معاشر المؤمنين: لو علم المسلم ما ادّخره الله تعالى من جزيل الثواب وعظيم الأجر لمن اجتهد في هداية الناس وتوجيههم للخير وإحياء السنن وإماتة البدع، لبذل الغالي والنفيس للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كنت سببا في هداية مسلم وعمل بما وجهته إليه كان لك مثل أجره، وإن أرشدته إلى عمل صالح فعمل به كان لك مثل أجره، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ». [رواه مسلم من حديث جرير t].