- خطبة بعنوان: يونس بن متى عليه السلام.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 3 ربيع الأول 1446هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
لقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء لنعرف فضلهم ودعوتهم ونأخذ منها العبر والعظات، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، ومن هؤلاء الرسل الكرام والأنبياء العظام: يونس بن متى عليه السلام، قال الله تعالى: { وإن يونس لمن المرسلين } وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى:(وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} ثم قال بعد ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وعن أبي هريرة، عن النبي
ﷺ قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى). متفق عليه
وقال تعالى ذاكرا أنه من المجتبين الصالحين: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
[القلم: 48-50] .
وقد بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.
فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا الـمُسوح (ثياب من الشعر)، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم.
ولهذا قال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } أي: هلاّ وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، وقوله: { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي: آمنوا بكمالهم.
ومن قصته عليه السلام أنه لما ذهب مغاضبًا بسبب قومه، ركب سفينة في البحر، فلجت بهم واضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون، فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتحفظوا منه. فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم يسمحوا به فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضًا، فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضًا، لما يريده الله به من الأمر العظيم. قال الله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ }.
وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر، وبعث الله عز وجل حوتًا عظيمًا من البحر فالتقمه، لم يأكل له لحمًا، ولم يهشم له عظمًا، ولبثه في بطنه مدة من الزمن، ولما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية، ويقتحم به لجج الموج الأحاجي، فعند ذلك وهنالك قال ما قال: بلسان الحال والمقال، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الأصوات وإن ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (أي نضيق عليه) فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ (أي: ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل) أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(، فكان الإيمان بالله سببا لنجاته، وذكره لله تعالى وتسبيحه سببا لفك كربته، قال تعالى: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قيل معناه: لولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه، والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة. ولبعث من جوف ذلك الحوت، وقيل معناه: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ } من قبل أخذ الحوت له { مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } أي: المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرًا. فمن حفظ الله تعالى في الرخاء حفظه تعالى في الشدة، عن ابن عباس: أن رسول الله
ﷺ قال لي: « يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ».
فأمر الله الحوت أن تلقيه بالعراء ، فخرج غاية الضعف والوهن ، فلطف الله به ، وأنبت عليه شجرة من يقطين وهو القرع، فأظلته بظلها الظليل حتى قوي واشتد ، وأمره الله أن يرجع إلى قومه فيعلمهم ويدعوهم ، فاستجاب له أهل بلده مائة ألف أو يزيدون ، فآمنوا فمتعناهم إلى حين . وقد قال الله تعالى: { فَنَبَذْنَاهُ } أي: ألقيناه { بِالْعَرَاءِ } وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار منها، ( وَهُوَ سَقِيْمٌ } أي: ضعيف البدن. (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: الكرب والضيق الذي كان فيه. (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي: وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا. وفي هذه القصة عتاب الله ليونس صلى الله عليه وسلم اللطيف ، وحبسه في بطن الحوت ؛ ليكون كفارة وآية عظيمة وكرامة ليونس ، ومن نعمة الله عليه أنه استجاب له هذا العدد الكثير من قومه ، فكثرة أتباع الأنبياء من جملة فضائلهم .
فاعبدوا الله تعالى بالرخاء ينجيكم عند البلاء، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكم، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
اشتملت سيرة هذا النبي عليه السلام وقومه على كثير من الفوائد من أجلها أن العبد إذا كانت له مقدمة خاصة مع ربه وقد تعرف إلى ربه في حال الرخاء ، أن الله يشكر له ذلك ، ويعرفه في حال الشدة بكشفها بالكلية أو تخفيفها ، ولهذا قال في قصة يونس : { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ }{ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات : 143 و 144] .
وفيها أن الإيمان ينجي من الأهوال والشدائد لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 88] . أي : إذا وقعوا فيها لإيمانهم .
ومن أعظم فوائدها أن الأنبياء مع عظم شأنهم وعلو مكانتهم عند ربهم فإنهم لا يملكون من الأمر شيئا بل الأمر كله بيد الله تعالى، كما قال نبينا r : ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. وهذا من أعظم دلائل ألوهية الله واستحقاقه للعبودية فلا تصرف العبادة إلا له ولا يسأل ويدعى إلا هو، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك.
ومن جليل الفوائد لهذه القصة بيان فضائل التوحيد وكلمة لا إله إلا الله، فإن يونس u لما دعا بها نجاه الله تعالى، فعَنْ سَعْد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :«دَعْوُةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ» رواه الترمذي وصححه الألباني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (سماها دعوة، لأنها تتضمن نوعي الدعاء. فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية. وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق؛ لأن يدعي دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو اللّه لا إله إلا هو. وقوله: {إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسئول، وإما بوصف الحالين.). انتهى كلامه رحمه الله.
فاشتملت هذه الدعوة على ثلاثة أمور:
اعتراف لله بالألوهية، وتنزيه لله تعالى عن الشريك والند والنظير وعن النقائص والعيوب، واعتراف من العبد بالتقصير في حق الله تعالى وأنه محتاج إلى ربه في كل حين، لذلك كانت هذه الدعوة إذا دعا بها العبد بقلب مخلص لله تعالى استجاب له ربه.
