اغتنام العشر الأول من ذي الحجة
اغتنام العشر الأول من ذي الحجة
  | 3049   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: اغتنام العشر الأول من ذي الحجة.
  • ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 27 ذي القعدة 1444هـ في مسجد السعدي بالجهرا.

 
  • الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،  ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( [آل عمران:102].
  • أَمَّا بَعْدُ، عِبَادَ اللهِ:
إن من نعم الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم يزداد فيها الأجر، ويكثر فيها الخير، فمن استغلها فيما شرعه الله فهو من الموفقين، ومن فرّط فيها فقد فاته ما قد لا يدركه مرة أخرى، وها نحن عباد الله مقبلون على أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، اخْتَارَهَا اللهُ تَعَالَى وَاصْطَفَاهَا، وَجَعَلَهَا أَفْضَلَ أَيَّامِ السَّنَةِ عَلَى الإِطْلَاقِ، وَهِيَ أَيَّامُ العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ، ولمكانتها فقد أَقْسَمَ بِهَا الْمَوْلَى في كتابه فَقَالَ:)وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ( [الفجر:1-3]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (المُرَادُ بِالعَشْرِ فِي الآيَةِ: العَشْرُ الأُوَلُ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ). وإذا علم العبد أن العمل الصالح يحبه الله تعالى في هذه الأيام أكثر من غيرها من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده؛ اجتهد العبد فيها في الطاعات، وازداد في القربات، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وأَبُو دَاوُدَ واللَّفْظُ لَهُ]، وكان سعيد بن جبير رحمه الله -وهو الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما- إذا دخل العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه. ومن تأمل هذه الأيام وجد أنها تجتمع فيها أنواع العبادات، ويجتهد المسلمون فيها بالطاعات، ففيها: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالحَجُّ وَالذَّبْحُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّاعَاتِ الجَلِيلَةِ وَالعِبَادَاتِ العَظِيمَةِ، بَلْ جَعَلَهَا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْسِمًا لِحَجِّ بَيْتِهِ الحَرَامِ، وَجَعَلَ فِيهَا أَيَّامَهُ العِظَامَ؛ فَفِي هَذِهِ العَشْرِ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهُوَ رُكْنُ الحَجِّ الأَكْبَرُ، وَفِيهَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ.
  • أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
من العبادات المشروعة فِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ: التَّكْبِيرُ لله تعالى، وَهُوَ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ: )لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ( [الحج:28]، وَهِيَ أَيَّامُ العَشْرِ، وقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: )وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ([البقرة:203]، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ : «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ نُـبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ]، وَذَكَرَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أَنَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ أَيَّامَ الْعَشْرِ فَيُـكَبِّـرَانِ وَيُكَبِّـرُ النَّاسُ بِتَـكْبِيرِهِمَا. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ فَيَكُونُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ - لِغَيْرِ الحَاجِّ - إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ الإِجْمَاعُ، كَمَا قَالَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
  • عِبَادَ اللهِ:
مما يشرع للمسلم في هذه العشر المباركات الصدقات بأنواعها وبذل الإحسان وصلة الأرحام والبر بأبوابه الفسيحة ومجالاته الواسعة. ومن الأعمال الصالحة التي يشرع للمسلم العناية بها في هذه العشر المباركة أن يتقرب إلى الله جل و علا بالصيام وخصوصا صيام يوم عرفة لغير الحاج فقد ورد في فضله ثواب عظيم، لا يتركه إلا محروم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضى الله عنه أن رسول الله قال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ على اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بَعْدَهُ)).
  • عِبَادَ اللهِ:
البدار إلى الخيرات قبل فوات الأوقات، يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: (يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين! يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين! يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين والسبعين! ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين! يا من ذنوبه بعدد الشفع والوتر! أما تستحي من الكرام الكاتبين؟! أم أنت ممن يكذب بيوم الدين؟! يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري! أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين، تعرض لنفحات مولاك في هذا العشر، فإن فيه لله نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سعد بها آخر الدهر). ليالي العشر أوقات الإجابة ... فبادر رغبة تلحق ثوابه ألا لا وقت للعمال فيه ... ثواب الخير أقرب للإصابة من أوقات الليالي العشر حقا ... فشمر واطلبن فيها الإنابة اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ السُّعَدَاءِ، وَجَنِّبْنَا دُرُوبَ الأَشْقِيَاءِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
  • الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
  • عِبادَ اللهِ:
لَمَّا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَضَعَ فِي نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ حَنِينًا إِلَى مُشَاهَدَةِ بَيْتِهِ الحَرَامِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ قَادِرًا عَلَى مُشَاهَدَتِهِ فِي كُلِّ عَامٍ، جَعَلَ الله مَوْسِمَ العَشْرِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّائِرِينَ وَالقَاعِدِينَ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ فِي عَامٍ قَدَرَ فِي الْعَشْرِ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي بَيْتِهِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الحَجِّ. عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَتَأَكَّدُ مَعْرِفَتُهَا فِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ الأَيَّامِ: مَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلْمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» [رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ]. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ أَلَّا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظَافِرِهِ وَلَا مِنْ جِلْدِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ، وَهَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، وَيُخْطِئُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِمْسَاكَ المُضَحِّي إِحْرَامٌ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ الطِّيبُ وَالجِمَاعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ عَلَى المُحْرِمِ، وَمَنْ أَخَذَ مِنَ المُضَحِّينَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ فَإِنَّ أُضْحِيَّـتَهُ مُجْزِئَةٌ، وَلَكِنْ عليه التوبة والاستغفار.