لئن شكرتم لأزيدنكم
لئن شكرتم لأزيدنكم
  | 4787   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: لئن شكرتم لأزيدنكم.
  • ألقاها لشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 17 رجب 1443هـ في مسجد السعدي بالجهرا.

 
  • الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
  • أما بعد:
فلقد ضرب الله عز وجل في كتابه في (سورة سبأ) مثلين لمن أنعم الله عليهم، فقوم قابلوا نعم الله بالطاعة والشكر؛ ففتح الله عليهم خير الدنيا والآخرة، وقوم جحدوا نعم الله عليهم وقابلوها بالعصيان والكفران؛ فسَلَبَ الله منهم النعم وأبدلهم عذابا وغضبا، فمن تأمل هذين المثلين عرف عاقبة الشكران وعقوبة الكفران. فأما المثل الأول: فهو إنعامُه وتفضلُهُ على عَبْدَيه داود وابنه سليمانَ عليهما السلام، فإن الله ذكرَ فضلَه على داود فقال: (ولقدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فقد منَّ الله عليه بالنبوة والعلم النافع، والعمل الصالح، والنعم الدينية والدنيوية، ومن نعمه عليه، ما خصَّه به من أمره تعالى الجمادات كالجبال والحيوانات من الطيور أن تُؤَوِّب معه وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها، مجاوبة له. ثم ذكر فضله على ابنه سليمان عليه السلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره، وتحملُهُ، وتحملُ جميع ما معه، وتقطع المسافة البعيدة جدًّا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم، مسيرة شهرين، وأنه سخَّر له عين النُّحاس، وسهَّل له الأسباب في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها، وسخر الله له أيضا، الشياطين والجن، لا يقدرون أن يعصوا أمره، وكل ما شاء سليمان عملوه، فلما ذكر مِنَّتَه عليهم، أمرهم بشكرها فقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا) لله على ما أعطاهم، ومقابلة لما أولاهم من النعم، وشكرها بنسبتها إلى الله والعمل بها بطاعته واعتراف القلب بمنَّته ، قال ابن القيم: (الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة). ثم ذكر الله أمرا عظيما يخاف منه قلب المؤمن الشاكر، وهو وصف الله تعالى للشاكرين بأنهم قليلٌ فقال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) فأكثر الناس لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم من النعم ودفع عنهم من النقم، وهذا ثناء منه تعالى على الشاكرين فاحرص يا عبد الله أن تكون من هؤلاء القليل.
  • عِبادَ اللهِ:
وأما المثل الثاني المقابل للشاكرين فهو أن ذكر الله تعالى بعد ذكره لداود وسليمان قوم سبأ وما حصل منهم من كفران النعم وجحودها، وقصتهم آيةٌ للمتعظين وعبرةٌ للمعتبرين، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) والآية هنا: ما أدرَّ الله عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا الله ويشكروه. وكان لهم واد عظيم بنوا عليه سدًّا محكمًا، يكون مجمعًا للماء، فكانت السيول تأتيه، فيفرقون الماء على بساتينهم، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان، من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم به الغبطة والسرور، فأمرهم الله بشكر نعمه، وجعل الله بلدَهم بلدةً طيبةً، لحسن هوائها، وحصول الرزق الرَّغِد فيها، ووعدهم -إن شكروه- أن يغفر لهم وَيرحمهم، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، ومن نعمه عليهم أن هيأ لهم من الأسباب ما به يتيسر سفرُهم وتنقُّلُهم بغاية السهولة، من الأمن وعدم الخوف، وتواصل القرى بينهم وبينها، بحيث لا يكون عليهم مشقة، بحمل الزاد والمزاد. فأعرضوا عن الـمُنعم وعن عبادته، وبطروا النعمة وملّوها، حتى إنهم طلبوا وتمنوا، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى، التي كان السير فيها متيسرًا، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بكفرهم بالله وبنعمته، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة التي أطغتهم فأبادها عليهم، فأرسل عليها سيلاً خرب سدهم، وأتلف جناتهم، وخرب بساتينهم، فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق والأشجار المثمرة، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها، وهذا من جنس عملهم. فكما بدلوا الشكر الحسن، بالكفر القبيح، تبدلت نعمته إلى نقمة وعذاب، (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ)، فلما أصابهم ما أصابهم، تفرقوا وتمزقوا، بعدما كانوا مجتمعين، وجعلهم الله أحاديث يتحدث بهم الناس، والسعيد من اتعظ بغيره. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.  
  • الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
  • أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
  • عِبادَ اللهِ:
لما ذكر الله قصة سبأ قال بعد ذلك: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، فهذه العقوبة -لمن يجحد نعمة الله عليه بعد أن أنعم الله عليه بالخيرات وبارك له في رزقه وآمنه في وطنه- آيةٌ وعبرةٌ وعظةٌ له ليشكر نعمة الله عليه ويعمل بها في طاعته، فيكون سائرًا على درب الشاكرين الصالحين، ولا يكون جاحدًا لنعم الله عليه كحال الكافرين المعذَّبين، فاختر أي قوم تعمل بعمله؟! وبأي قوم تقتدي؟! وعلى أي مثل تسير؟!. وإننا ولله الحمد لفي نعم ورزق وفضل من الله وأمن وأمان يتمناه غيرنا، وقد خفّ عنا البلاء والوباء، فهل حققنا شكر الله تعالى بالعمل بطاعته؟!، أم أننا بدلنا طاعة الله بمعصيته؟!، هل شكر الله تعالى يكون بالغناء والرقص والتبرج والسفور والاختلاط والمجون؟!، هل يكون شكر الله تعالى بالبعد عن الصلاة وهجر المساجد والقرآن؟!، هل يكون ذكر الله بإيذاء الناس بالمياه والطرقات؟! احذروا ثم احذروا أن يتبدل الأمن خوفا وأن تنقلب النعم إلى نقم، بسبب بعدنا عن ربنا، فأكثروا من حمد الله وشكره على كل نعمة، فهو المستحق للحمد والشكر، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فيقال له فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا"؟ [رواه البخاري من حديث المغيرة]، فاشكروا الله بطاعته يزدكم من خيره وفضله، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).