- خطبة بعنوان: شهر الله المحرم فضله وما يشرع فيه.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 27 ذي الحجة 1442هـ في مسجد السعدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
- أما بعد فيا عِبادَ اللهِ:
إنَّ من رحمةِ اللهِ تعالى بعبادِه أن جَعَل لهم من الأزمانِ ما تَتَضاعف فيه الحسنات، وأرشدَ أهل الإيمان إلى استغلاله بفعل الخيرات والأعمال الصالحات، ونهانا أن نظلم فيها أنفسنا بالخطايا والسيئات، فالسَّعيد من اغتنمها فبادر إلى الخيرِ والحسناتِ، والخاسرُ من فرّط فيها وسَعَى إلى الشرِّ والمنكرات.
ومن هذه الأزمنة المباركة الشهور المحرمة الذي ذكرها الله تعالى في كتابه فقالَ:
)إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ( [التوبة:36]، وهذه الشهور ثلاثة متتالية وهي: ذو القَعدة وذو الحِجَّة ومُحرم، وواحد مستقل وهو شهر رجب، قال قتادة رحمه الله: (إنَّ الظلم في الشهر الحرام أعظم خطيئةً ووزرًا من الظلم فيما سواه).
وها نحن مقبلون على شهر الله المحرم، و قد سمى النبي
ﷺ المحرم: (شهر الله) وأضافه إلى الله مما يدل على شرفه و فضله، وممّا يشرع الإكثار منه من الأعمال الصالحة في هذا الشهر كثرة الصيام، فقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ
ﷺ؛ أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ: «
أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» [رواه مسلم]،
وينبغي على المؤمن أن لا يفوته خصوصا صيام يوم عاشوراء، فَهُوَ يَوْمٌ لَهُ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ وَحُرْمَةٌ قَدِيمَةٌ، قَدْ صَامَهُ مُوسَى u وَقَوْمُهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَصَامَهُ نَبِيُّـنَا
ﷺ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ
ﷺ قَدِمَ الْمدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ: (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟)، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ)، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ
ﷺ أَجْرَ صِيَامِهِ، وَمَا يُكَفِّرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
ﷺ قَالَ: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ). وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: (مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
ﷺ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ) يَعْنِي رَمَضَانَ. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَقَدْ عَزَمَ النَّبِيُّ
ﷺ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ لَا يَصُومَهُ مُفْرَدًا، بَلْ يَضُمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ، مُخَالِفًا بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي صِيَامِهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ
ﷺ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وأَمَرَ بِصِيامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ: (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ المُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِعَ)، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ المُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ.
تنبهوا إلى ما يُنشر من الأحاديث في فضائل وأعمال عاشوراء فإنها كلّها ضعيفة لا تصح إلا ما ورد في الصيام وفضله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وَكَذَلِكَ قَدْ يَرُوجُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى السُّنَّةِ أَحَادِيثُ يَظُنُّونَهَا مِنَ السُّنَّةِ وَهِيَ كَذِبٌ، كَالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي فَضَائِلِ عَاشُورَاءَ - غَيْرَ الصَّوْمِ - وَفَضْلِ الْكُحْلِ فِيهِ، وَالِاغْتِسَالِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْخِضَابِ، وَالْمُصَافَحَةِ، وَتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ فِيهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي عَاشُورَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَيْرَ الصَّوْمِ) انتهى كلامه رحمه الله.
فَاجْتَهِدُوا -عِبَادَ اللهِ- فِي طَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ، وَاسْتَغِلُّوا مَوَاسِمَ الْقُرُبَاتِ، تَحُوزُوا الأَجْرَ وَالثَّوَابَ وَالْبَرَكَاتِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
لا يَصلُحُ لنَا الدّينُ ولا الإيمانُ إلا بالاقتداءِ بسنَّة سيد المرسلين، والسير على طريق أصحابه المرضيين، وأتباعهم والتابعين، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم أبدًا دينًا، وإن من المحدثات التي تحصل في هذه الأيام الاحتفال بآخر يوم من العام، وتخصيصه بنوع من العبادات وتخصيص آخر جمعة منه ببعض الطاعات، أو ما ينتشر كل آخر سنة هجرية مما يسمى دعاء آخر العام أو دعاء أول السَّنة، يدعى به في آخر سجدة أو بعد الركوع من آخر صلاة في العام، ويقولون اجعل آخر السَّنَة طاعةً وأولها طاعةً، ويقولون: احرص على أن تطوى صحيفة أعمالك آخر السنة: باستغفار وتوبة وعمل صالح، ويقيمون الاحتفالات لهجرة المصطفى
ﷺ، ولا ريب في كون هذه الأمور من المحدثات التي يجب الحذر والتحذير منها، فلم يفعلها رسولها ولا حثّ عليها ولا فعلها أصحابه ولا من بعدهم.
ثم اعلموا أن هجرة النبي
ﷺ إلى المدينة لم تكن في شهر الله المحرم، وإنما كانت في شهر ربيع الأول كما ذكر أهل التأريخ والسِّير، والذي وقع من الصحابة إنما هو تحديد السنين الإسلامية بسنة الهجرة بجعلها أول السنين، وليس التحديد بيوم الهجرة، وأنه هو أول أيام السنة.
فكونوا عباد الله من المتبعين ولا تكونوا من المبتدعين، اللهم وفقنا لدينك وأعنا على مرضاتك.