سيرة الإمامين الجليلين البخاري ومسلم
- خطبة الجمعة بعنوان: سيرة الإمامين الجليلين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم ٢٦ جمادي الأول - عام 1440هـ في مسجد السعيدي.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْـرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّهُ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ العُلَمَاءَ السَّائِرِينَ عَلَى مَنْهَجِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَفِي إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمُ النَّاسَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ وَمَكَانَةٌ عَالِيَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: )يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ( [المجادلة: 11]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( [فاطر: 28]، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِمْ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ]، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِمْ: «وَإنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
هَذَا الصِّنْفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْعُلَمَاءِ العَامِلِينَ، وَالدُّعَاةِ الْهُدَاةِ الْمُخْلِصِينَ، وَالَّذِينَ أَخَذُوا بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، عِلْمًا وَعَمَلًا وَمَنْهَجًا وَدَعْوَةً عَلَى الأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفُوا لَهُمْ قَدْرَهُمْ، وَأَنْ يُنْزِلُوهُمْ مَنْزِلَتَهُمُ اللَّائِقَةَ بِهِمْ وَبِعِلْمِهِمْ وَنُصْحِهِمْ لِلَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِنْ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ، حَيْثُ حَفِظُوا لَنَا صَحِيحَ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَحَدِيثِهِ، وَأَخْبَارِهِ وَأَيَّامِهِ، وَسِيرَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ -الإِمَامَانِ الجَلِيلَانِ: الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ وَالإِمَامُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُمَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا؛ فَكَثِيرًا - عِبَادَ اللهِ - مَا نَسْمَعُ: [رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]، فَمِنْ حَقِّ هَذَيْنِ الْعَالِمَيْنِ وَالْمُحَدِّثَيْنِ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِمَا، وَنُلْقِيَ ضَوْءًا عَلَى بَعْضِ أَخْبَارِهِمَا وَفَضَائِلِهِمَا.
عِبَادَ اللهِ:
أَمَّا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ: أَبُو عَبْدِاللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ، البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فَسِيرَتُهُ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ فِي ذَكَائِهِ وَحِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَعِلْمِهِ، وَفِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، مِنْ عُلَمَاءِ القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْرِيِّ؛ فَقَدْ أُلْهِمَ حِفْظَ الحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْكُتَّابِ وَعُمْرُهُ عَشْرُ سَنَوَاتٍ، وَكَانَ يُصَحِّحُ لِلشَّيْخِ خَطَأَهُ فِي الإِسْنَادِ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَفِظَ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ حَجَّ مَعَ وَالِدَتِهِ وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ لِطَلَبِ الحَدِيثِ.
بَدَأَ تَصْنِيفَ بَعْضِ كُتُـبِهِ مِثْلِ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: التَّارِيخِ الكَبِيرِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْكُتُبُ الَّتِي كَتَـبَهَا وَهُوَ فِي هَذِهِ السِّنِّ المُبَكِّرَةِ يَقُومُ عَلَى دِرَاسَتِهَا عَشَرَاتٌ مِنْ كِبَارِ الدَّارِسِينَ وَالمُحَقِّقِينَ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يُصَاحِبُ أَقْرَانَهُ إِلَى المَشَايِخِ لِأَخْذِ الحَدِيثِ، وَهُمْ يَكْتُبُونَ وَهُوَ لَا يَكْتُبُ، وَيَأْمُرُونَهُ بِالْكِتَابَةِ فَلَا يَكْتُبُ، فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ، قَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا كَتَبُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، فَزَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: (أَتَرَوْنَ أَنِّي أَخْتَلِفُ هَدْرًا، وَأُضَيِّعُ أَيَّامِي)؟!.
وَمِنْ عَجِيبِ حِفْظِهِ: أَنَّهُ قَدِمَ بَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ أَئِمَّةُ الحَدِيثِ فِيهَا يَسْمَعُونَ عَنْ قُوَّةِ حِفْظِهِ؛ فَأَرَادُوا امْتِحَانَهُ، فَعَمَدُوا إِلَى عَشَرَةٍ مِنْ حُفَّاظِهِمْ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ، قَلَّبُوا أَسَانِيدَهَا وَخَلَطُوهَا، فَأَخَذُوا يُلْقُونَهَا عَلَى البُخَارِيِّ حَدِيثًا حَدِيثًا، وَهُوَ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ هَذَا الحَدِيثَ؛ حَتَّى أَنْهَوُا الْمِائَةَ حَدِيثٍ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمُ المِائَةَ حَدِيثٍ بِخَطَئِهِمْ، ثُمَّ أَعَادَهَا مَرَّةً أُخْرَى مُصَحَّحَةً؛ فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْحِفْظِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالفَضْلِ. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللهُ-: (هُنَا يُخْضَعُ لِلْبُخَارِيِّ، فَمَا الْعَجَبُ مِنْ رَدِّهِ الْخَطَأَ إِلَى الصَّوَابِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ حَافِظًا؛ بَلِ الْعَجَبُ مِنْ حِفْظِهِ لِلْخَطَأِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ)!!.
انْضَمَّ إِلَى هَذَا الحِفْظِ العَجِيبِ اهْتِمَامٌ بَالِغٌ بِالحَدِيثِ يَشْغَلُهُ عَنِ النَّوْمِ كَثِيرًا؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: (كُنْتُ مَعَ البُخَارِيِّ بِمَنْزِلِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَحْصَيْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ وَأَسْرَجَ؛ يَسْتَذْكِرُ أَشْيَاءَ يُعَلِّقُهَا فِي لَيْلَةٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَرَّةً)!!.
وَكَان ثَمَرَةُ هَذَا الحِرْصِ وَتِلْكَ الحَافِظَةِ رَصِيدًا كَثِيرًا مِنَ الأَحَادِيثِ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ فِي نَوَاحِي البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: (أَحْفَظُ مِئَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَأَحْفَظُ مِئَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ).
عِبَادَ اللهِ:
وَلَقَدْ رَأَى البُخَارِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَنَامِ؛ وَكَأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ يَذُبُّ بِهَا عَنْهُ، فَسَأَلَ بَعْضَ المُعَبِّرِينَ؛ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَذُبُّ عَنْهُ الْكَذِبَ؛ يَقُولُ البُخَارِيُّ: (فَهُوَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى إِخْرَاجِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ).
وَقَالَ أَيْضًا: (كُنَّا عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: لَوْ جَمَعْتُمْ كِتَابًا مُخْتَصَرًا لِصَحِيحِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِي؛ فَأَخَذْتُ فِي جَمْعِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ).
كَانَتْ رُؤْيَاهُ وَقَوْلُ شَيْخِهِ حَافِزًا عَلَى جَمْعِهِ الصَّحِيحَ، الَّذِي لَا يُوجَدُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إِلَّا تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَمًا مِنْهُ لِهَذَا الإِمَامِ العَظِيمِ، ثُمَّ تَحَرِّيَ هَذَا الإِمَامِ وَدِقَّتَهُ، وَكَثْرَةَ اسْتِخَارَتِهِ؛ حَتَّى خَرَجَ كِتَابُهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ. يَقُولُ - رَحِمَهُ اللهُ -: (مَا وَضَعْتُ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ حَدِيثاً إِلَّا تَوَضَّأْتُ قَبْلَ ذَلِكَ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ)، وَيَقُولُ: (صَنَّفْتُ الجَامِعَ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلَتْهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ).
عِبَادَ اللهِ:
هَذَا الإِمَامُ العَظِيمُ أَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ الأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ فَتَحْتُ بَابَ ثَنَاءِ الأَئِمَّةِ عَلَيْهِ، مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ؛ لَفَنِيَ الْقِرْطَاسُ، وَنَفَدَتِ الأَنْفَاسُ؛ فَذَاكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ).
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ابْتُلِيَ هَذَا الإِمَامُ بِبَعْضِ الْوُلَاةِ وَبَعْضِ مُعَاصِرِيهِ، وَنُفِيَ مِنْ بَلَدِهِ، حَتَّى تُوُفِّيَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَيْلَةَ عِيدِ الفِطْرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَعُمْرُهُ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَبِوَفَاتِهِ طُوِيَتْ صَفْحَةٌ مِنْ صَفَحَاتِ العُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ؛ لَكِنَّ آثَارَهُ لَمْ تَمُتْ، بَلْ بَقِيَ عِلْمُهُ وَكُتُـبُهُ يَنْهَلُ مِنْهَا الْعُلَمَاءُ وَالمُسْلِمُونَ، فَلَا زَالُوا يَقُولُونَ: [رَوَاهُ البُخَارِيُّ، أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ]، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ –عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِنَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمُبَرَّزِينَ فِي الْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَالإِدْرَاكِ تِلْمِيذُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ وَهُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ أَبُو الحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- نَشَأَ فِي بَيْتِ عِلْمٍ وَجَاهٍ، وَاتَّجَهَ إِلَى الْعِلْمِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ شُيُوخٍ أَجِلَّاءَ وَمُحَدِّثِينَ نُبَهَاءَ، وَقَدْ وَرَدَ بَلْدَتَهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فَلَازَمَهُ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ، وَدَافَعَ عَنْهُ فِي مِحْنَتِهِ وَبَلْوَاهُ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللهُ يَتَّسِمُ بِالْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالْعِلْمِ الوَاسِعِ؛ لِذَلِكَ عَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَسَمَتْ مَكَانَتُهُ، وَفَاضَتْ أَلْسِنَةُ العُلَمَاءِ بِعِبَارَاتِ التَّقْدِيرِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ قَالَ فِيهِ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ الْفَرَّاءُ: (كَانَ مُسْلِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ، وَأَوْعِيَةِ العِلْمِ، مَا عَلِمْتُهُ إِلَّا خَيْرًا)، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِنْ مُؤَلَّفَاتِ هَذَا الإِمَامِ العَظِيمِ: كِتَابُهُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَنَاقَلَهُ العُلَمَاءُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، يَنْهَلُونَ مِنْ عُلُومِهِ، وَيُدِيمُونَ النَّظَرَ فِي صَفَحَاتِهِ، وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَدِقَّتِهِ وَرِوَايَاتِهِ، حَتَّى قَالَ مُسْلِمٌ نَفْسُهُ عَنْ كِتَابِهِ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ يَكْتُبُونَ مِائَتَيْ سَنَةٍ فَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا المُسْنَدِ) يَعْنِي صَحِيحَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: (صَنَّفْتُ هَذَا المُسْنَدَ الصَّحِيحَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ). وَصَحِيحُ الإِمَامِ مُسْلِمٍ يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، فَهُمَا أَصَحُّ الكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَصَحُّ مُصَنَّفٍ فِي الْحَدِيثِ بَلْ فِي الْعِلْمِ مُطْلَقًا الصَّحِيحَانِ لِلْإِمَامَيْنِ الْقُدْوَتَيْنِ: أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا نَظِيرٌ فِي المُؤَلَّفَاتِ). وَقَالَ أَيْضًا: (اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الكُتُبِ بَعْدَ القُرْآنِ العَزِيزِ الصَّحِيحَانِ: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَلَقَّتْهُمَا الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ).
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ سِيرَةَ العُلَمَاءِ المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ دُرُوسٌ وَفَوَائِدُ وَعِبَـرٌ، مِنْهَا يَسْتَفِيدُ السَّامِعُ وَالقَارِئُ، فَمِنْ تِلْكَ الفَوَائِدِ العَظِيمَةِ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِرَاءَتُهَا وَحِفْظُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا، وَالْحِرْصُ وَالِاجْتِهَادُ فِي العِلْمِ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُ عَظِيمٌ، وَيَبْقَى لَكَ أَجْرُهُ بَعْدَ وَفَاتِكَ بِالذِّكْرِ الحَسَنِ وَالْأَثَرِ الطَّيِّبِ، فَهَذَانِ الإِمَامَانِ مِنْ وَفَاتِهِمَا إِلَى عَصْرِنَا هَذَا وَالنَّاسُ وَأَهْلُ العِلْمِ يَدْعُونَ لَهُمَا، وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْ كُتُبِهِمَا وَعُلُومِهِمَا؛ إِنَّهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ، ومَنْقَبَةٌ كُبْرَى، لَا يُمْكِنُ إِحْصَاءُ مَنْ يَقُولُ: [قَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ]، نَاهِيكُمْ عَنْ أَجْرِ حِفْظِ السُّنَّةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَفَنَاءِ العُمْرِ فِي التَّعْلِيمِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِهِمَا وَصِدْقِهِمَا وَتَقْوَاهُمَا، وَمِنَ الِاهْتِمَامِ بِصَحِيحَيْهِمَا الْاِجْتِهَادُ فِي قِرَاءةِ كُتُبِهِمَا وَإِدْمَانِ النَّظَرِ فَيَهِمَا. أهـ.