موقف الحسن البصري من الفتن
موقف الحسن البصري من الفتن
  | ,, 13619   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: موقف الحسن البصري من الفتن.
  • ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 2 رجب 1432.

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعده:

فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعده:

عباد الله إن علماء أهل السنة الصادقين هم أنموذج عظيم للإقتداء وترك الابتداع، فإذا قلبت طرفك في سيرهم عرفت أنهم على الحق سائرون وعلى السنة صابرون، فمنهم الصحابة الكرام والتابعون العظام ومن تبعهم بإحسان، كإمام أهل السنة والجماعة صدقًا وحقًا الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-, ولنا وقفة موجزة مع إمام من هؤلاء الأئمة الذين لهم موقف عظيم في مواجهة الفتن ومعالجتها، والإنكار على من خالف أهل السنة في طريقة تعاملهم مع الفتن، وهو الإمام أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمه الله تعالى-، فقد عاصر هذا الإمام فتنة عظيمة من الفتن التي مرت على المسلمين وهي ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي الظالم الجبار المبير على أهل العراق، وخروج ابن الأشعث ومن معه عليه مطالبين بالتغيير، ورافضين للظلم، فحصلت بذلك فتنة عظيمة قتل فيها كثير من المسلمين, فما هو موقف هذا الإمام الثابت على السنة، هل حثهم على الخروج والتغيير، هل شارك معهم في قتالهم، كلا بل إنّه -رحمه الله- كان ينكر أشد الإنكار على من رأى الخروج أو دعا إليه، فله -رحمه الله- كلام كثير في هذا، وفي كفّ الناس عن الخوض في الفتنة وأمرهم بالصبر؛ حتى يأتي الله بالفرج، لذلك كان يقول: كان يونس بن عبيد -رحمه الله- يقول: (كان الحسن -والله- من رؤوس العلماء في الفتن والدماء). لذلك لما قيل له: يا أبا سعيد؛ ما تقول في السلطان؟ فقال: (ما عسيت أن أقول في قوم يلون من أمورنا بخمسة :الجمعة، والجماعة، والفيء، والثغور، والحدود، وما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، ولما يصلح الله بهم أكثر مما يفسد). لكن مع موقفه هذا أكرهه ابن الأشعث على الخروج معه، لكنّه هرب ولم يستمر معه ولم يقاتل،ـ بل ولى هاربًا حين سنحت له الفرصة، وهذا يدل على عدم رضاه بذلك إطلاقًا. قال أيوب: (قيل لابن الأشعث: إن سرّك أن يُقتلوا حولك كما قُتلوا حول جمل عائشة فأخرج الحسن، فأرسل إليه فأكرهه), وعن ابن عون -رحمه الله- أنه قال: (ستبطأ النّاس أيّام ابن الأشعث فقالوا له: أخرج هذا الشيخ -يعني: الحسن البصري- قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء، فغفلوا عنه فألقى نفسه في بعض تلك الأنهر؛ حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ), فانظر كيف فرّ من المشاركة معهم لعلمه بخطورة ذلك, لذلك كان أهل البصرة يحمدون منه هذا الموقف وعلت مكانته عندهم بسببه، وهذا يدلّ على أنه لم يكن مع ابن الأشعث، فعن ابن عون قال: (كان مسلم بن يسار أرفع عند أهل البصرة من أبي سعيد، يعني: الحسن البصري؛ حتى خفّ مع ابن الأشعث [أي خرج معه] وكفّ الآخر، فلم يزل أبو سعيد في علو منها بَعدُ، وسقط الآخر). وكان الحسن البصري -رحمه الله- لما سمع رجلاً يدعو على الحجاج، قال له: (لا تفعل إنّكم من أنفسكم أُوتيتم إنا نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير).

وكان -رحمه الله- إذا قيل له: ألا تخرج فتغيّر، قال :(إنّ الله إنّما يغيّر بالتوبة، ولا يغيّر بالسيف). واسمع إلى هذه الحادثة وما فيها من العبر، وكيف هو صبر الأئمة على السنة، وإتباعهم لها، يقول سليمان بن علي الربعي -رحمه الله-: لما كانت الفتنة، فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف، انطلق عقبة بن عبد الغافر، وأبو الجوزاء، وعبد الله بن غالب، في نفر من نظرائهم، فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج، قال: فقال الحسن: (أرى أن لا تقاتلوا، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا؛ حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)، قال: فخرجوا من عنده، وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب، قال: فخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعًا، فما سمعوا لنصيحة هذا الإمام فكانت تلك عاقبتهم؛ حتى إن أحدهم وهو عقبة بن عبد الغافر وجد صريعًا يوم الجماجم، أي يوم قتالهم مع ابن الأشعث، حين انهزم الناس فكان يقول: (ذهبت الدنيا والآخرة), عرف أن فعله لم يتحصل منه مصلحة في الدنيا ولا له أجر في الآخرة لما حصل من المفاسد, كما أنكر الحسن البصري -رحمه الله- على سعيد بن جبير ومن معه، فعن أيوب قال: قال لي الحسن: (ألا تعجب من سعيد بن جبير دخل عليّ فسألني عن قتال الحجاج ومعه بعض الرؤساء، يعني: من أصحاب ابن الأشعث). وكذلك أنكر على أخيه سعيد بن أبي الحسن حين حث على الخروج مع ابن الأشعث، فعن أبي التياح قال: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن -رحمه الله- ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكفِّ، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضّض على الخروج، ثم قال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غدًا، فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين، ولا نريد خلعه، ولكنّا نقمنا عليه استعماله الحجاج فاعزله عنّا، فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن -رحمه الله- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام، فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه هذا ظني بهم).

فهذا أنموذج واضح جلي من مواقف العلماء في الفتن ومعالجتها ضمن الضوابط الشرعية، فلا خروج ولا مظاهرات ولا قتال ولا سب ولعن ولا غير ذلك, وقد أنكر الدخول في هذه الفتنة العظيمة جمع من العلماء غير الحسن البصري، ومن ذلك إنكار أبي قلابة على مسلم بن يسار، وكذلك أنكر عليهم مطرف بن عبد الله الشخير -رحمه الله-  لما دعوه إلى ذلك، فعن حميد بن هلال قال: أتى مطرف بن عبد الله زمان ابن الأشعث ناسٌ يدعونه إلى قتال الحجاج، فلما أكثروا عليه، قال: (أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟) قالوا: لا، قال: (فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه), وقد قيل له أيضًا: هذا عبد الرحمن بن الأشعث قد أقبل، فقال: (والله لئن يُرى بين أمرين: لئن ظَهر لا يقوم لله دين، ولئن ظُهر عليه لا يزالون أذلّة إلى يوم القيامة), فلا مصلحة إذن شرعية من ذلك الخروج وإنما هو مطالبات مادية ولأجل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين وغيرهم، ينهون عام الحرّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث, ولهذا استقرّ أمر أهل السنّة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم), انتهى كلامه -رحمه الله.- اللهم ثبتنا على السنة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:

عباد الله.. إن من انقلاب المفاهيم والاستدلالات المغلوطة استدلال كثير من الخارجين بفعل من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، وما سبق ذكره من إنكار الأئمة عليهم وبيان أنهم خالفوا النصوص، يدل على أن فعلهم منكر وباطل ولا يجوز الاحتجاج به، فالحجة بالنصوص الشرعية، لا بأقوال وأفعال من خالفها، بل كيف نستدل بأفعال أقوام رجعوا عن فعلهم وعرفوا أنهم أخطئوا وخالفوا النصوص, ويدلّ على ذلك ندم من خرج مع ابن الأشعث من القراء ممن بقي ولم يقتل، فعن أيوب -رحمه الله تعالى- أنه قال: (لا أعلم أحداً قُتل إلا وقد رُغب له عن مصرعه، أي ما تمنى أحد موتته ولا نجا إلا قد ندم على ما كان منه(, يقول العلاء بن عبد الكريم -رحمه الله تعالى-: ضحكت، فقال لي طلحة بن مصرّف وكان من شهد الجماجم، أي القتال مع ابن الأشعث, قال: (إنّك تضحك ضحك رجلٍ ما شهد الجماجم(، قيل: يا أبا محمد، وشهدت الجماجم؟، قال: (نعم، ورميت فيها بأسهم ما بلغت، ولوددت أنّ يدي قطعت من هاهنا -وأشار إلى مرفقه- وأنّي لم أشهد), وكذلك ندم مسلم بن يسار فعن أبي قلابة -رحمه الله- أنه اجتمع هو ومسلم بن يسار وكان مسلم خرج مع ابن الأشعث، فذكروا ذلك، فقال مسلم: (قد خرجت معه فوالله ما سللت سيفًا، ولا رميت بسهم، ولا طعنت برمح)، فقال له أبو قلابة: (لكن قد رآك رجل واقفًا، فقال: هذا مسلم بن يسار واقف للقتال، فرمى بسهمه وطعن برمحه وضرب بسيفه) قال: فبكى مسلم، قال أبو قلابة: (حتى تمنيت أني لم أقل شيئًا), وكذلك رجوع الإمام الشعبي عن خروجه يوم الجماجم مع القراء على يزيد والحجاج، وندمه على ذلك واعترافه بذنبه، فقد قال للحجاج: (أصلح الله الأمير، خطبتنا فتنة فما كنّا فيها بأبرار أتقياء ولا فجار أقوياء، وقد كتبت إلى يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي على ما فرط منّي ومعرفتي بالحق الذي خرجت منه وسألته أن يخبر بذلك الأمير، ويأخذ لي منه أمانًا فلم يفعل), فعليكم عباد الله بالاحتجاج بالنصوص الشرعية وتقديمها على قول أي أحد كائنًا من كان، والنصوص كلها تدلّ على وجوب السمع والطاعة في غير معصية والصبر على جورهم وبذل النصيحة لهم بضوابطها الشرعية والدعاء لهم وغير ذلك من حقوقهم.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن, اللهم إنا نعوذ بك من الفتن, اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم أحفظنا وأحفظ بلاد المسلمين, اللهم جاعل هذا البلد وبلاد المسلمين آمنا مطمئنا سخاءً رخاءً, اللهم ابعد عنا وأهل المسلمين الفتن, اللهم ابعد عنا وأهل المسلمين الفتن.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.