- العنوان: فتنة القبور .
- ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 24 ذي القعدة 1432.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعده:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعده:
فمن أعظم مكايد عدو الله التي كاد ولا يزال يُكاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه وأتباعه أن فتنهم بالقبور وبتعظيمها؛ حتى وصل الأمر فيها إلى أن عُبد أصحابها من دون الله، وعبدت قبورهم، وبنيت عليها القباب، ثم جعلت أصنامًا يُلجأ إليها في الشدائد، ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المضرات؛ حتى أصبحت زيارتها أفضل من زيارة بيت الله الحرام، وكان أول من عرف بالشرك قوم نوح -عليه السلام- وأول من وقع فيه منهم القبوريون المنصرفون بقلوبهم إلى الموتى من صلحائهم، فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد؛ حتى إذا هلك أولئك، وذهب العلم، عبدت من دون الله, وفي لفظ آخر: كان في قوم نوح قوم صالحون، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم, فهؤلاء القوم جمعوا بين فتنتين؛ فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمه -رضي الله عنها- ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها ماريه, فذكرت له ما رأت فيها من الصور, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنو على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى». فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بين الصور أو التماثيل والقبور وهذا كان سببًا في عبادة الأصنام.
فقد رأيتم عباد الله أن سبب عبادة أولئك الصالحين من قوم نوح، وعبادة اللات والعزى في العرب إنما كان من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها الصور والتماثيل وعبدوها، وهذا السبب، أي تعظيم القبور واتخاذ الصور والتماثيل الذي لأجله نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ المساجد على القبور هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الشرك الأكبر, فإن الشرك بقبر الرجل الصالح أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، وقد سمعنا من أناس يذهبون إلى قبور رجال يعتقدون أنهم صالحون فيتضرعون عندها، ويخشعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، بل منهم من يسجد لها ويرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجون في المساجد، ويقولون لقد جربنا أن نذرنا عند القبر الفلاني فقضيت حاجاتنا، ومنهم من يقول الدعاء عند القبر الفلاني مستجاب، هذه شبهة لبسها عليهم عدو الله إبليس فأطاعوه وزينها لهم فاتبعوه.
ولأجل هذه المفسدة العظيمة وهي الشرك الأكبر حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ما يؤدي إليها؛ حتى نهى عن الصلاة في المقبرة وإن لم يقصد المصلي بركة المكان بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ؛ حتى وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون.
وأما إذا قصد الرجل بالصلاة عند القبور حصول البركة بالصلاة في ذلك المكان، فهذا قصد مخالف لدين الله، وإتباع دين لم يأذن به الله تعالى، فإن المسلمين قد علموا من دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عند القبور وبناء المساجد والقباب عليها، ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس وهو يوصي أمته:
«ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».
لكن الكثير من الناس قد أغفل هذه الوصية وعمل بخلافها؛ حتى بلغ الشيطان بهم إلى الشرك العظيم، فاعتقد بعضهم أن زيارة القبور التي عليها القباب والمشاهد إما قبر نبي أو شيخ أفضل من حج بيت الله الحرام ويسمونها بالعتبات المقدسة, ويسمون زيارتها الحج الأكبر، يفعلون ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرّمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد أسست على تقوى من الله ورضوان، فهم يظنون أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها والتبرك بها وسؤال الميت ودعائه، يدعون الميت ويسألونه كما يسألون ربهم فيقولون: اغفر لي وارحمني، ومنهم من تتمثل له صورة الشيخ الذي يستغيث به ويدعوه فإنما هي صورة شيطان قد خاطبه ليلبس عليه ويضله, واعلم يا عبد الله أن المقبورين المدفونين من الأنبياء والصالحين صدقًا يكرهون ما يفعله هؤلاء القبوريون عندهم كل الكراهة ولا يرضون بفعلهم ويتبرءون منهم, كما يكره المسيح عيسى -عليه السلام- ما يفعله النصارى به, وكما كره علي -رضي الله تعالى عنه- ما فعله السبئية من الغلو فيه, فلا يحسب المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأوثانًا فيه تنقص من الصالحين، بل هو من باب إكرامهم، وأن من تمام إكرامهم وحبهم أن نتّبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء».
وفقني الله وإياكم لإتباع هدي النبي وجنبنا الشرك بجميع صوره وجميع مظاهره, إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
إن مما افتتن به الناس أن اتخذوا القبور أعيادًا كما كان يفعل المشركون في الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإبطالها، فقد روى أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
«لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم», فإذا كان قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل البشر قد نهى عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان، ثم إن في اتخاذ القبور أعيادًا ومزارات مفاسد عظيمة ما يغضب لأجله كل من في قلبه خوف من الله وغيرة على التوحيد وتقبيح للشرك.
فمن أعظم مفاسد اتخاذ القبور أعياداً ومزارات؛ الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها والتمسح بترابها وعبادة أصحابها وسؤالتهم النصر والرزق وقضاء الديون وتفريج الكربات وغير ذلك من أنواع الطلبات؛ حتى أنهم إذا رأوا هذه القبور من مكان بعيد وضعوا لها جباههم، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم، وتباكوا واستغاثوا بمن لا يضر ولا ينفع؛ حتى إذا اقتربوا منها صلوا عند القبر ركعتين، وظنوا أنهم قد نالوا من الأجر ما لم ينله من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، فلغير الله، بل للشيطان أسالوا الدموع ورفعوا الأصوات، وطلبوا من الميت الحاجات وسألوه تفريج الكربات، فكانت صلاتهم ودعاؤهم وسؤالهم لغير الله رب العالمين.
إن الناظر في أحوال الناس اليوم عند القبور يرى أكثرهم مضادًا لما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهى عنه أصحابه, فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها مساجد، ويسمونها عتبات مقدسة ومشاهد تشبيها ببيوت الله، ونهى أن تتخذ عيدًا وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو للحج أو أكثر, وأمر بتسويتها وعدم رفعها عن الأرض وهؤلاء يبالغون فيرفعونها عن الأرض كالبيت ويبنون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه والكتابة عليه، وهؤلاء ينفقون الأموال من أجل زخرفتها، ويتخذون عليها الألواح من رخام وغيره، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى ولعن من ذبح لغير الله وهؤلاء يذبحون للأولياء والأضرحة والسادة, فهؤلاء الناس المعظمون للقبور عبدة التراب مخالفون لأمر الله ورسوله وملعونون في الشريعة الإسلامية.
فعلى العاقل بعد ما عرف هذه المخالفات أن يتقي الله تعالى فلا يقع في شيء من ذلك، وعليه أن ينصح غيره، وأن ينكر هذا المنكر العظيم، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبتنا على السنة والتوحيد.
اللهم ثبتنا على الإسلام, اللهم ثبتنا على السنة, رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة وقنا عذاب النار اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وصلى الله وسلم على نبينا محمد.