برد الشتاء موعظة وذكرى
برد الشتاء موعظة وذكرى
  | , 12707   |   طباعة الصفحة


  • خطبة جمعة : برد الشتاء، موعظة وذكرى.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  •  المكان: خطبة جمعة في يوم 6 جمادى الأول - عام 1438هـ في مسجد السعيدي بالجهراء، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

   
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد.. عباد الله، إن من آيات الله -تعالى- الليل والنهار وما يحصل فيهما من تقبل الأحوال ما بين حرٍّ وبردٍ وصيفٍ وشتاء؛ ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[الطلاق:12]، يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل:81]. عباد الله، لقد كان السلف الصالح يفرحون بالشتاء؛ لقصر نهاره للصائم، وطول ليله للقائم وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة»، وقال عمر -رضي الله تعالى عن-: "الشتاء غنيمة العابدين"، وقال ابن مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه-: "مرحبًا بالشتاء تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، ويقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "نعمَّ زمان المؤمن الشتاء ليله طويلٌ يقومه، ونهاره قصيرٌ يصومه". وشدة البرد -عباد الله- تذكر المؤمن بزمهرير جهنم يقول -صلى الله عليه وسلم-: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا ربِ، آكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير» متفقٌ عليه. و(الزمهرير): المراد به شدة البرد أجارنا الله وإياكم من عذابه. عباد الله، كثيرٌ من الناس يتساهل في مسألة إسباغ الوضوء خاصةً مع شدة البرد فلا يوصل الماء إلى مرفقي يديه بسبب الملابس التي يلبسها، وهذا قد أخل بوضوئه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه مسلم. يقول القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "وإسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحوه" وبعض المصلين لا يفسر أن يرفعون أكمامهم عند غسل اليدين فسرًا كاملًا، وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئًا من الذراع بلا غسلٍ وهو محرم والوضوء معه غير صحيح فالواجب أن يفسر كُمَّه إلى ما وراء المرفق مع اليد؛ لأنه من فروض الوضوء. ومن المكروهات مع شدة البرد -عباد الله- (التلثم في الصلاة) فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» رواه أبو داود وغيره. يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: "يُكره التلثم في الصلاة إلا من عِلَّة". ويحي الشتاء فينا -عباد الله- إتباع إرشاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدم إبقاء النار وما سواها مشتعلة حال النوم لما في ذلك من خطر الاحتراق أو الاختناق. فقد جاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن هذه النار إنما هي عدوٌ لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم». عباد الله، فإن مما ابتلانا الله -عزَّ وجلَّ- به في هذه السنة قِلة المطر وجدب الأرض، وذهاب بهجتها، وزوال خضرتها، والناس تشتكي ذلك وحق لهم أن يشكوا من ذلك؛ لأن الماء نعمةٌ من نعم الله -عزَّ وجلَّ-. يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ[الأنبياء:30] لكنَّ الناس عن أسباب ذلك غافلون، وعلى معاصيهم سائرون ما سبب عدم نزول الأمطار؟ ما سبب القحط؟ ما سب جدب الأرض؟ له أسبابٌ كثيرة من أعظمها ما سيخبرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أخرج ابن ماجة، والبيهقي وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر المهاجرين، خصالٌ خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين (أي: القحط)، وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا سلَّط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- وينظروا فيه إلا جعل الله بأسهم بينهم». يقول مجاهد بن جبرٍ -رحمه الله تعالى-: "إن البهائم لا تلعن العُصاة من بني آدم إذا اشتدت السنين (أي: القحط) تقول: من شُؤم معصية بني آدم"، وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رجلٌ يقول: (إن الظالم لا يضر إلا نفسه)، فقال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: بلا والله حتى الحبارى لتموت في وكرها هزلًا لظلم الظالم". انظروا -عباد الله- في أنفسكم، وانظروا في مجتمعكم كيف انتشرت الذنوب والمعاصي؟ إلا من عافاه الله. كيف قلَّ خوف الله وخشيته؟ كم من الناس منعوا الزكاة وتساهلوا فيها؟ وكم ملئ ابن آدم بطنه من الحرام والربا والرشوة؟ كم تساهلوا في الأعراض والفواحش والزنا واللواط؟ كم حشوا أسماعهم بسماع الأغاني والمعازف؟ كم نظروا بأبصارهم إلى العورات، ومقاطع الفحش والرزيل؟ كم من ظالمٍ ظلم أخاه في مالٍ أو عرضٍ؟ انظروا في أسواقنا وأعراسنا حال نساء المسلمين ولباسهم، كم ارتكبنا من منكراتٍ في الأفراح، وفي الأحزان؟ ثم بعد ذلك نقول، ونتعجب، ونتساءل عن قلة الأمطار. إذًا إخوة الإيمان من أعظم أسباب نزول الغيث من السماء: أن نستغفر الله -سبحانه وتعالى-، وأن نتوب إليه فذلك هو المخرج، وأن نتضرع إليه أفرادًا وجماعات إذ هو القائل -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [الأنعام:42-43]. عليكم بكثرة الاستغفار، والرجوع من المظالم، والتوبة إلى الله عما نرتكبه من المعاصي في السر والعلن. استغفروا الله وتوبوا إليه من المعاصي كلها من الشرك والبدع، وما يتعلق بهما ليس الاستغفار باللسان فقط إنما الاستغفار بالفعال توبوا إليه، واقلعوا عن المعصية، واندموا عليها. يقول الله -سبحانه وتعالى- عن نوحٍ -عليه السلام-: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح:10-13]. اللهم إنَّا نستغفرك ونتوب إليك. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.  
  • الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد، عباد الله، إن شكر الله -عزَّ وجلَّ- على نعمه يكون بالقلب واللسان والأعمال إنما ذلك من أعظم أسباب نزول الغيث والمطر. فكم أنعم الله علينا من النعم في الليل والنهار؟ لكن مع هذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]. اسمعوا لهذا الخبر عن ثواب رجلٍ كان يشكر الله -عزَّ وجلَّ- بأعماله وبالصدقة، وكيف سقاه الله -عزَّ وجلَّ- بالمطر؟ أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرض (أي: بصحراءٍ)، فسمع صوتًا في سحابةٍ: اسقِ حديقة فلانٍ (باسمه)، فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرّةٍ، فإذا شَرجةٌ من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبّع الماء فإذا رجلٌ قائم في حديقته (أي: في مزرعته) يحول الماء بمسحاته، فقال له: "يا عبد الله، ما اسمك؟"، قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: "يا عبد الله، لما تسألني عن اسمي؟"، فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسقِ حديقة فلانٍ -لاسمك-، فما تصنع فيها؟، فقال هذا الرجل: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثه» وفي رواية: «واجعل ثلثه في المساكين والسائرين وابن السبيل». عباد الله، هكذا أعطاه الله -عزَّ وجلَّ- هذا الثواب بسبب الصدقة، وبسبب شكره لهذه النعمة العظيمة. عباد الله، هذا البرد الذي نعيشه في هذه الليالي في بيوتنا وبين مدافئنا يعيشه إخوانٌ لكم في سوريا وغيرها فراشهم الأرض، ولحافهم السماء يموت كثيرٌ منهم من شدة البرد فيجب علينا أن نستشعر ما هم فيه من البلاء والمصائب، وأن لا ننساهم بالدعاء والصدقة فما هم إلا قطعةٌ منَّا، ونحن وإياهم كالجسد الواحد هكذا هو حال المؤمن مع أخيه. اللهم ألطف بإخواننا في سوريا والعراق واليمن، وبرما وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرج عنهم يا رب العاملين، اللهم فرج عنهم. اللهم عليك بعدوك وعدوهم، اللهم خذهم اللهم خذ أعدائهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم سقيا رحمه لا سقي عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرق. اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنَّا عذاب النار، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.