- العنوان: المظاهرات وحكمها .
- ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 22 ذو الحجة 1432.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعده:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعده:
فإن من القضايا التي أشغلت الناس في هذه الأيام قضية المظاهرات وحكمها, فقد ظهرت ولا تزال تزداد وهي سبيل للشر وحصول الفتن، وقد بحُّت أصوات الناصحين في التحذير منها، وبيان خطورتها ولما كانت هذه القضية من أخطر القضايا المعاصرة كان على المسلم أن يعلم الحكم الشرعي في مسألة علاقة المحكوم بالحاكم، وكيفية التعامل مع أخطائه؛ حتى يعبد ربه على بصيرة ومساهمته في إيضاح هذه القضية, أذكر نفسي وإياكم بأن من أصول أهل السنة والجماعة بعقيدتهم أنهم يرون السمع والطاعة لأولي الأمر في غير معصية الله -عز وجل- بقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء:59], وأن هذه الطاعة في غير معصية الله واجبة له؛ حتى ولو كان في نفسه فاسقًا فاجرًا وفي سياسته ظالمًا جائرًا ما دام إنه في دائرة الإسلام ولم يخرج منها بالكفر بواح، وذلك لما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ على أصحابه البيعة أن يسمعوا ويطيعوا لأولي الأمر في المنشط والمكره والعسر واليسر وعلى أثرة عليهم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله ما لم يروا كفرًا بواحًا عندهم فيه من الله برهان, وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الناصح لهذه الأمة يقول: «
يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ فقال الناصح -صلى الله عليه وسلم-: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع», فانظر كيف وصف الرسول-صلى الله عليه وسلم- بعض الأئمة فقلوبهم قلوب الشياطين مع هذا لم يأمر بالخروج عليهم، ولا بالمظاهرات وغيرها, وسُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمراء يمنعون الرعية حقوقهم، أي كيف يكون التعامل معهم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «
اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» رواه مسلم, وقال -صلى الله عليه وسلم-: «
إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» رواه البخاري, وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ستكون أمراء يستأثرون على الرعية بالحقوق الدنيوية، ثم أمر بالصبر على جورهم وظلمهم؛ حتى يلاقوه على الحوض, وهذه الأحاديث الصحيحة يتلقاها أهل السنة بقلوب مطمئنة وأهل التسليم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بصدور منشرحة لا يعترضون عليها بآرائهم ولا بعقوله ولا بثقافاتهم ولا بعاطفتهم، ولا يقولون: إن هذا المنهج يربي على الذل والهوان، ولا يقولون: إن هذا المنهج يجرئ الحكام على المزيد من الظلم، بل يقولون كما أدبهم ربهم في قوله تعالى: ﴿
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾[الأحزاب:36].
وفي قوله تعالى: ﴿
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65], إن المؤمن الصادق هو الذي يسلم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن أدرك الحكمة من الأمر زاده ذلك طمأنينة، وإن لم يدرك الحكمة فإنه على يقين أنه لا حكم أحسن من حكم الله ولا أعدل ولا ارحم منه ﴿
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة:50].
أما أهل الأهواء والبدع فلا يقبلون من النصوص والشرع إلا ما وافق أهواءهم، وأما ما يخالفها فيردونها بأنواع الشبة والاعتراضات ولعياذ بالله, كذلك عباد الله لقد أمر الشرع ببذل النصح للحاكم؛ حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «
الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم», فالحاكم يخطئ ويجهل ويقصر جهلًا أو عمدًا ومن حقه على رعيته أن تنصح له، وأن تبصره بمواقع الخلل في دولته وسياسته، ولكن بالطريقة الشرعية التي تقوم على الخفاء والإسرار لا بالتشهير والإعلان كما جاء نصا عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث: «
من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية«.
ومقام النصح للحاكم بين يديه لا من وراء ظهره وبقصد النصح لا بقصد منازعته للحكم من أفضل الجهاد، وفيه يقول -صلى الله عليه وسلم-: «
أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر«, وقال عند سلطان ولم يقل على المنابر وفي الأماكن العامة, فإن قبل الحاكم النصيحة فالحمد لله، وإن لم يقبلها كان الناصح قد أدى الذي عليه كما ورد في الحديث ووقع أجره على الله إن كان صادقًا مخلصًا لله، ومن ظلم وأساء فله رب يحاسبه ويجازيه.
وبهذا المنهج النبوي نجمع بين مصلحتين:
- الأولى: براءة الذمة ببذل النصح.
- والثانية: السلامة من أسباب الفتن التي تنشأ عن الإنكار العلني؛ لأن الإنكار العلني يفضي إلى الاختلاف والشقاق والنزاع بين الراعي والرعية, ثم اعلموا عباد الله أن من أسباب ظلم الحكام للشعوب هو ظلمهم لأنفسهم بالذنوب والمعاصي فأصلحوا أنفسكم يصلح لكم ولاتكم، فكما تكونوا يولّى عليكم وكما يقول الحسن البصري -رحمه الله-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا سَلَّطَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ عَلَيْكُمْ إِلا عُقُوبَةً، فَلا تُعَارِضُوا عُقُوبَةَ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ وَالتَّضَرُّعَ, وكان -رحمه الله- إذا قيل له ألا تخرج تغير؟ فقال: إن الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف.
نسأل الله أن يديم أمننا واجتماع كلمتنا، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان, أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
لقد سمعنا التوجيهات النبوية في طريقة الإصلاح، ومن هنا ندرك أن اتخاذ أسلوب العنف في الاعتراض على الحكام من خلال الاحتجاجات والمسيرات والمظاهرات أنه أسلوب غير مشروع، وهو أسلوب لم يأمر به الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا سبق إليه السلف الصالح، وما كان هذا صفته فلا يكون خيرًا, وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا الطريقة الشرعية لمناصحة الحاكم واستصلاحه، وأن هذا الأسلوب من أساليب الإنكار مأخوذ عن النصارى وأمثالهم «
ومن تشبه بقوم فهو منهم» وأنها يصحبها عدد إضافي من المنكرات كما هو مشاهد من السب واللعن والصياح والتدمير والإفساد والتحريق واختلاط الرجال بالنساء، ثم أيضًا قد يسقط فيها عدد من القتلى والجرحى والمصابين إلى غير ذلك مما يطول وصفه ولا يخفى على أكثركم.
لهذه المفاسد وغيرها حذر أئمة السنة منها كالشيخ ابن باز -رحمه الله- وابن عثيمين -رحمه الله- والألباني -رحمه الله- وغيرهم من علماء أهل السنة المعاصرين, واسمع لموقفين عظيمين لإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد ابن حنبل-رحمه الله تعالى- ما موقفه من الولاة مع انتشار القول بخلق القرآن الذي هو كفر بالله وتعذيب أهل السنة على ذلك فانظر كيف كان يعاملهم -رحمه الله-؟
عن أبي الحارث -رحمه الله- قال: سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد, وأبو عبد الله هو الإمام أحمد- قال كان أمر قد حدث ببغداد وهمَّ قومٌ بالخروج، فقلت : يا أبا عبد الله ، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم، فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: -سبحان الله-! الدماء الدماء لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه، يعني أيام الفتنة، قلتُ : والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمَّت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء! لا أرى ذلك، ولا آمر به.
وفي ولاية الواثق اجتمع بعض أهل بغداد إلى الإمام أحمد -رحمه الله- فقالوا: يا أبا عبد الله هذا الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك, فقال لهم أبو عبد الله فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه, فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدًا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم, انظروا في عاقبة أمركم واصبروا؛ حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.
ودار في ذلك كلام كثير ومضوا, ثم قيل للإمام أحمد: هذا عندك صواب, قال: لا هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر, فهذا هو الموقف الصحيح الذي يوافق نصوص الكاتب والسنة فتمسكوا به عباد الله واتبعوا ولا تتبعوا، ولا تكونوا من الهمج الرعاع أتباع كل ناهق، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم إن نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم أصلح لنا ولاة أمورنا ووفقهم لما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتدلهم عليه يا رب العالمين، اللهم أحفظ بلادنا وبلاد الإسلام والمسلمين, ربنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.