- خطبة جمعة : إياكم ودماء المسلمين.
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة جمعة في يوم 3جمادى الثاني - عام 1438هـ في مسجد السعيدي بالجهراء، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد...
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وشرّ الأُمور مُحدثاتها، وكُلَّ مُحدثة بِدعة، وكُلَّ بِدعة ضلالة، وكُلَّ ضلالة في النّار.
أمَّا بعد...
عباد الله، لقد جاء الإسلام بالشريعة السمحة، والدِّين المتين وقرر قواعد ومبادئ كلية، وأصولٌ شاملةً عامة جاءت موضحةً ومبينةً في الوحي الشريف، لها مقاصد عظيمة يقوم عليها أمر الدين والدنيا، ترجع إليها الأحكام الفرعية والآداب المرعية تحقق المصالح وتدفع المفاسد.
ومن هذه المقاصد عباد الله، التي جاءت بها الشريعة الإسلامية
"حفظ الأنفس"، ومن ضروريات حفظها تحريم الإسلام للقتل والاعتداء على النفس، يقول –عزَّ وجلَّ-:
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾[النساء:93]
، فقاتل المسلم معرضٌ لهذه العقوبات الزاجرة، والعواقب الرادعة، فهو مستحقٌ للخلود في النار ونزول غضب الله عليه، والطرد من رحمة الله، والوعيد الشديد بالعذاب العظيم.
وقد أعلن النبي –صلى الله عليه وسلم- الإعلان العظيم لعصمة الأنفس وحرمتها، في أكبر مجمعٍ للأمة، في حجة الوداع يوم عرفة، فقال –عليه الصلاة والسلام-:
«فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، وعدَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- قتل النفس حرم الله من أكبر الذنوب بعد الشرك بالله، وذلك لأن الشرك فسادٌ للدِّين والقتل فسادٌ للدنيا وإفسادٌ في الأرض.
فعن أبو هريرة – رضي الله تعالى عنه-، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل مال الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: "الفساد إمَّا في الدِّين، وإمَّا في الدنيا، فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير حق؛ ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدِّين الذي هو الكفر".
عباد الله، إن الله –عزَّ وجلَّ- حرَّم قتل النفس في جميع الأديان، وشدد -سبحانه وتعالى- في النهي عن جريمة الاعتداء عن النفس غاية التشديد، حتى جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعًا، لشؤم هذه الجريمة، والمعصية في عاقبتها، وسوء أثرها على البشرية، يقول -سبحانه وتعالى-:
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾[المائدة:32]
، وقال –عزَّ وجلَّ-:
﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)﴾[النساء: 29/30]
.
فإراقة القليل من دم النفس الواحدة عدوانًا وظلمًا، فضلًا عن إزهاقها كلها جريمةٌ كبرى، وموبقةً عظمى، وسببٌ من أسباب الحرمان من دخول الجنة والإحالة بينه وبينها والعياذ بالله، فعن جندبٍ رفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ»، رواه البخاري، فكيف الحال بعد ذلك يا عباد الله؟ بحال الخوارج في القديم والحديث، الذين يستحلون دماء المسلمين ويقتلونهم تدينًا ، ويفكون دمائهم تقربًا، فذلك لا شك أنه أعظم وأخطر.
والمسلم يا عباد الله، لا يزال في فسحةٌ من دينه موفقًا للخير وموسعًا عليه في فعل الصالحات لا تضيق بها أعماله، ما لم يصب دمًا حرامًا فإن أصاب دمًا حرامًا فقد أهلك نفسه، فعن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
«لا يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى
«لا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا» أي: مسرعًا ومنبسطًا
«صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ»، والتبليح أي: الانقطاع عن الخير، رواه أبو داود.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه.
أمَّا بعد..
عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، والفقر والغنى، والقوة والضعف.
عباد الله، إن من أشد الخسران والخذلان للعبد أن يعمل أعمالًا صالحة، ثم يأتي يوم القيامة وقد أفلس من ذلك كله؛ بل ذهبت حسناته لغيره، والتعدي على الأنفس سببٌ من أسباب ذلك، فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه-، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:
«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.
وقد حرصت الشريعة الإسلامية على سد الذرائع المفضية إلى جلب المفاسد وتفويت المصالح فأمرت بكل وسيلةً تحفظ الأنفس وتصونها، ومنعت من كل وسيلةٍ تهلك الأنفس وتؤذيها، فحرمت حمل السلاح على المسلمين، أو الإشارة لهم بالسلاح؛ بل أمرت بحفظه بعيدًا عنهم، فعن ابن عمر –رضي الله عنهما-، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَمَل علينا السلاح فليس منَّا» متفقٌ عليه.
وعن أبو هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:
«مَنْ أشارَ إلى أخيهِ بحديدَةٍ، فإنَّ الملائِكةَ تَلْعَنُهُ حتّى يَدعه، وَإنْ كانَ أخاهُ لأبيهِ وأمِّهِ»، كم سمعنا من الحوادث والدماء، التي ذهبت بسبب اللعب بالسلاح والإشارة به إلى صاحبه، يظنه فارغًا -ثم يحصل بعد ذلك- ثم تحصل بعد ذلك المصيبة والفاجعة؟! ولو أنه تقيد بهذا النهي وبهذه السُّنَّة وترك الإشارة بالسلاح على أخيه بأي نوعٍ من أنواع السلاح ولو كان سكينًا، ولو كان لعبًا، لما حصل ذلك.
وجاء عن أبي موسى –رضي الله تعالى عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
«إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، - أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ -، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ»، متفقٌ عليه، فهذا تأكيدٌ لحرمة المسلم، لحرمة المسلم ودمه، ونهيٌ شديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه، ومن العجب العجاب ما نراه وما نسمع عنه عن استعمال السلاح في المناسبات وغيرها، وتهورٍ في قيادة المركبات واستعمالًا للأدوات الخطرة، ومن أرقامٍ مخيفة في عدد ضحايا ذلك، حتى عد إلى الوقوع فيما حذَّر منه ديننا.
فالله الله يا عباد الله! في المحافظة على الأرواح والأنفس، واحرصوا كل الحرص على حفظها وحمايتها، ولا تجعلوا أفراحكم أحزانًا لغيركم في مثل هذه التصرفات.
اللهم إنَّا نسألك أن تحفظنا وذرياتنا، اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ﴿
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة:201].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.