التوكل على الله منجاة للعبد
- خطبة بعنوان: التوكل على منجاة للعبد.
- ألقاها الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري - حفظه الله تعالى
- المكان: خطبة في يوم 12 جمادى الثاني 1446هـ في مسجد السعيدي بالجهرا.
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [.
اعلموا أن هذه الدار دار اختبار وابتلاء، يمتحن الله عز وجل العباد بالخير والشر، والسراء والضراء، ليعلم الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، (ألم
(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
(3))، ولهذا وجب على أهل الإيمان وطاعة الرحمن أن يوطنوا أنفسهم على مقابلة هذا الابتلاء إما بالصبر أو الشكر ليكونوا من السعداء ويتجنبوا دروب الأشقياء. كثير منا عباد الله تصيبه في هذه الدنيا المصائب والابتلاءات من هموم وأحزان وأمراض وخسران وفَقْدٍ للأحبة والإخوان فيضعف إيمانه وتكثر أحزانه وقد يصل إلى اليأس من رحمة الله وفضله، ونسي أو تناسى أنه مطالب بالتوكل على الله ربه ومولاه، فالأمر بيده والدنيا والآخرة إليه وتحت ملكه وفي تصرفه، فالتوكل على الله صفة الأنبياء وأهل الإيمان، وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
من يتوكل على الله يحفظه من شر أعدائه وينصره عليهم، (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ
(44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ)، من يطلب النّصر على أعدائه والفرج من مصابه فليكن رفيقه التّوكّل، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، إذا أعرض عنك الخلق فعليك بالتّوكّل: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، إذا وصلت قوافل القضاء فاستقبلها بالتّوكّل، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، إذا نصبت الأعداء حبالات المكر فادخل أنت في أرض التّوكّل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي)، إذا عرفت أنّ مرجع الكلّ إلى الله وتقدير الكلّ فيها لله فوطّن نفسك على فرش التّوكّل: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)، إذا علمت أنّ الله هو الواحد الأحد، فلا يكن اتّكالك إلّا عليه: (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)، إذا كانت الهداية من الله، فاستقبلها بالشّكر والتّوكّل: (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، إذا خشيت بأس أعداء الله والشّيطان فلا تلتجئ إلّا إلى باب الله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إذا أردت أن يكون الله وكيلك في كلّ حال، فتمسّك بالتّوكّل في كلّ حال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، إذا أردت أن يكون الفردوس الأعلى منزلك فانزل في مقام التّوكّل: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إن شئت أن تنال محبّة الله فانزل أوّلا في مقام التّوكّل: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، إذا أردت أن يكون الله لك، وتكون لله خالصًا فعليك بالتّوكّل: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). قال العلامة ابن القيّم رحمه الله: (التّوكّل من أقوى الأسباب الّتي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم).
إن التوكل على الله وتفويض الأمر إليه نجاة للعبد أي نجاة، وراحة للمؤمن من كل بلاء، فيبدل الله بصبره وتوكله همه فرحا وحزنه سعادة ومصيبته فرجا، وانظر إلى حال إبراهيم حين إلقي في النار وحال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حين اجتمع عليهم الأحزاب، عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في النّار، وقالها محمّد صلّى الله عليه وسلّم حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). رواه البخاري. وهذا حال الصحابة حين سمعوا عن أهوال يوم القيامة علموا أن من أسباب النجاة التوكل على الله، فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنّفخ فينفخ». فكأنّ ذلك ثقل على أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكّلنا» [رواه الترمذي وحسنه]. فالتوكل على الله هو جماع أسباب دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذاك حين وصف النبي صلى الله عليه وسلم السبعين ألفا قال: (كانوا لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون)، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مَنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَأُوصِيكُمْ- عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
يبين العلامة ابن القيم أنه لا تتم حقيقة التوكل إلا بأمور منها: المعرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وثبات الأسباب والمسببات والأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال بدنه قيامه بها، وحال قلبه قيامه بالله لا بها، وكذلك رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده. بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، وكذلك اعتمـاد القلب عـلى الله واستنـاده وسكونه إليه، وحسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له يكون توكله عليه، واستسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته. وكذلك التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء العبد أموره كلها إلى الله وإنـزالها به طلبا واختيارا، لا كرها واضطرارا. وكذلك الرضا بالقدر وهو ثمرة التوكل وأعظم فوائده، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له فقد حقق التوكل.