فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- خطبة الجمعة بعنوان: فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
- القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
- المكان: خطبة في يوم 22 صفر - عام 1434 هـ في مسجد السعيدي.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار وأما بعد.
لقد بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في خير القرون، واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولاً، وأقومهم دينًا، وأفقههم علمًا، وأشجعهم قلبًا، جاهدوا في الله حق جهاده، فأقام بهم الدين، وأقامه على جميع العالمين، وكان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون، الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم خير قيام، فحافظوا على الدين، وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين، فكانت خلافتهم أفضل خلافةٍ في التاريخ، وكان قدرهم عاليًا، وأعلاهم حظًا وقدرًا أبو بكرٍ الصديق -رضي الله تعالى عنه- واسمه عبد الله بن عثمان -رضي الله تعالى عنه-، فلا طلعت الشمس ولا غربت على أحدٍ بعد النبي خيرٌ وأفضل من أبي بكرٍ الصديق -رضي الله تعالى عنه-.
ولهذا الصحابي الكريم فضائل عديدة، ومآثر كثيرة، ذُكرت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل:17-21]. يقول ابن كثيرٍ -رحمه الله-: (قد ذكر غير واحدٍ من المفسرين، أن هذه الآيات نزلت في أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- حتى إن بعضهم حكى الإجماع عن المفسرين على ذلك) ولاشك أنه داخلٌ فيها، وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها العموم، ولكنَّه مقدمٌ الأمة، وسابقهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقًا تقيًا كريمًا جوادًا، باذلاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]، وهذه فضلة لأبي بكرٍ لم ينلها أحدٌ من الصحابة، وهي مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة وعنايته به. يقول أبو بكرٍ -رضي الله عنه- قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» [رواه البخاري].
وأبو بكرٍ –رضي الله عنه- أسبق الصحابة إسلامًا، يقول عمار –رضي الله عنه-: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر –رضي الله عنهما» [رواه البخاري]، وكان ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وفي الهجرة وفي المدينة حتى توفاه الله، وكان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستطيعه. عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: سألت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت عقبة بن أبي مُعيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقًا شديدًا فجاء أبو بكرٍ –رضي الله عنه- حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم» [رواه البخاري].
وقد كان أبو بكرٍ -رضي الله عنه- أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: «أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب. فعد رجالاً» [رواه البخاري]، وكان –رضوان الله عليه- أفقه الصحابة وأعلمهم وأعظمهم على الرسول منّة في المال والصحبة. وعن أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكرٍ، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا». فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكرٍ –رضي الله عنه- هو أعلمنا به. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مِن أَمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكرٍ، إلا خلة الإسلام ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكرٍ» [رواه البخاري]. وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأنه يدعى من أبواب الجنة كلها فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة: بابَ الصلاة والجهاد، والصدقة والصيام. فقال أبو بكرٍ: «ما على هذا الذي يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجوا أن تكون منهم يا أبا بكر» [رواه البخاري]. وفي حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- لما استأذن أبو بكرٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذن له وبشره بالجنة» [رواه البخاري]. وعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحدًا وأبو بكرٍ وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: «اثبت أُحد، فإنما عليك نبيٌ وصديقٌ وشهيدان» [رواه البخاري]. وقد تولى الخلافة أبو بكرٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإشارةٍ صريحةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه خلَّفه على الناس في الصلاة والحج. وثبت أن امرأةً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحاجةٍ فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ قالت: فأتي أبا بكر». وهمّ -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب كتابًا لأبي بكرٍ -رضي الله عنه-، ثم قال بعد ذلك: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
ومن فضائله وثباته على الحق، موافقته للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الشروط في "صلح الحديبية"، وكذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى اندهش المسلمون لذلك حتى قام عمر وأنكر موته، ولكنَّ أبا بكرٍ -رضي الله عنه- جاء فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله، وقال: «بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا» ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر فخطب الناس بقلبٍ ثابت، وقال: "ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت"، وتلا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:30]، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران:144]. وأنفذ جيش أسامة بن زيد، وكذلك صمم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، وقال: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه». وسار في خلافته في الناس سيرةً حميدة، وبارك الله في مدّة خلافته على قصرها، فقد كانت سنتين وثلاثة أشهرٍ وتسع ليالٍ. ومن بركته وحسناته أنه خلَّف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن جميع الصحابة، يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:100] أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفره؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هده أما بعد.
إن منزلة أبي بكرٍ الصديق-رضي الله عنه- والصحابة جميعًا في ميزان الإسلام عظيمة، ومكانتهم رفيعة، أفضلهم أبو بكر -رضي الله عنه-، قد شهد بذلك جميع الصحابة الكرام فمن ذلك ما شهد به عليٌ -رضي الله عنه- لما سأله محمد بن الحنفية فقال: قلت لأبي: «أي الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليٌ: أبو بكر. ثم قالت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب». وكان يقول: «من جاءني يفضلني على أبي بكرٍ وعمر جلدته حدَّ المفتري»، وهكذا صار السلف الصالح من بعدهم على تفضيل أبي بكرٍ ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقد حكم السلف على منتقص الصحابة أو أحدٍ منهم بالزندقة والسوء والرفض، يقول أبو زُرعة -رحمه الله-: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة). يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: «إذا رأيت رجلا يذكر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام». فاحفظوا مكانة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأدوا إليهم حقهم ودافعوا عنهم لعلَّ الله أن يحشركم معهم. فالمرء مع من أحب، والدفاع عن الصحابة من حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم صحبوه وواسوه، وأيدوه ونصروه فالدفاع عنهم دفاعٌ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وذمهم والطعن عليهم ذمٌ وطعنٌ على نبينا -صلى الله عليه وسلم-. يقول الإمام الطحاوي -رحمه الله-: «ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ».
فاحذروا عباد الله من تلك المناظرات التي تقام مع أهل البدع والزندقة، في شأن الصحابة وأمور الاعتقاد، فقد نهى السلف الصالح عن هذه المناظرات إلا لضرورة أما فتح أبواب المناظرات فينظر إليها الجاهل وغير ذلك بل فيها فتح لباب أهل الأهواء والبدع والزندقة أن ينشروا أفكارهم بين أهل السنة وهم في أماكنهم فلا يجوز للمسلم أن يلقي بسمعه إلى الشبهات فإنها خطافة والقلب ضعيف.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان..