خال المؤمنين معاوية، فضله وثناء العلماء عليه
خال المؤمنين معاوية، فضله وثناء العلماء عليه
  | , 5249   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فضله وثناء العلماء عليه.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 14  محرم - عام 1441هـ في مسجد السعيدي.

   
  • الخطبة الأولى: 
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا،  )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ([النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (*) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ([الأحزاب:70-71]. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْـرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ r، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: لَقَدْ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا r فِي خَيْرِ القُرُونِ، وَاخْتَارَلَهُ مِنَ الأَصْحَابِ أَكْمَلَ النَّاسِ عُقُولًا، وَأَقْوَمَهُمْ دِينًا، وَأَغْزَرَهُمْ عِلْمًا، وَأَشْجَعَهُمْ قُلُوبًا، جَاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فَأَقَامَ اللهُ بِهِمُ الدِّينَ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ. وَمَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ عَرَفَ قَدْرَ كِتَابِ اللهِ وَحَفِظَهُ وَعَمِلَ بِكُلِّ مَا فِيهِ، وَاعْتَصَمَ بِهِ مِثْلَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ r، فَحَمَاهُمُ اللهُ مِنَ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ وَالبِدَعِ وَمَسَاوِئِ الأَخْلَاقِ وَأَلْوَانِ البَاطِلِ، فَكَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ t حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ r خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ r فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ)[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ]. عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الأَجِلَّاءِ، وَالعُلَمَـاءِ الْأَتْقِيَاءِ، وَالمُلُـوكِ العُدُولِ الأَنْقِيَاءِ، أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ القُرَشِيُّ الأُمَوِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، لَهُ إِلَى النَّبِيِّr نَسَبٌ وَمُصَاهَرَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّr  فِي جَدِّهِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُخْتُهُ أُمُّ حَبِيْبَةَ هِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ وَلِذَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُلَقِّبُهُ بِخَالِ المُؤْمِنِينَ. وَلَقَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ هَذَا الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ لِلْإِسْلَامِ، فَآمَنَ عَامَ الفَتْحِ أَوْ فِي العَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِذَلِكَ نَالَ شَرَفَ صُحْبَةِ النَّبِيِّr، وَهُوَ الشَّرَفُ الَّذِي لَا يُدَانِيهِ شَرَفٌ، وَالفَضْلُ الَّذِي لَا يَعْدِلُهُ فَضْلٌ ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t  قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، فَمُعَاوِيَةُ t دَاخِلٌ فِي جَمِيعِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الصُّحْبَةِ وَعُلُوِّ شَأْنِهَا وَمَكَانَةِ أَصْحَابِهَا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، قَالَ رَجُلٌ لِلْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: (لَا يُقَاسُ أَحَدٌ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ r، مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ وَصِهْرُهُ وَكَاتِبُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟فَقَالَ: (وَاللهِ إِنَّ الغُبَارَ الَّذِي دَخَلَ فِي أَنْفِ مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِrأَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بِأَلْفِ مَرَّةٍ، صَلَّى مُعَاوِيَةُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِr، فَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ. فَمَا بَعْدَ هَذَا ؟). وَحَظِيَ هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ بِدَعَوَاتٍ مُبَارَكَةٍ مِنَ النَّبِيِّ r إِذْ دَعَا لَهُ فَقَالَ: »اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ«[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالرَحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]. وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ  tقَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: »اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الكِتَابَ وَالحِسَابَ وَقِهِ العَذَابَ«[رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]، فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الأَدْعِيَةَ مِنَ النَّبِيِّ r الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللهِ r هَذَا الدُّعَاءَ لِمُعَاوِيَةَ t فجَعْلِهِ هَادِيًا لِلنَّاسِ مَهْدِيًّا فِي نَفْسِهِ، وَكَفَى بِهَذَا مَنْقَبَةً وَمَزِيَّةً. عِبَادَ اللهِ: وَلَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُt  مَحَلَّ ثِقَةِ النَّبِيِّr ، حَتَّى جَعَلَهُ كَاتِبًا لِلْوَحْيِ وَأَمِينًا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِr لِابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: »اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ«، قَالَ: وَكَانَ كَاتِبَهُ، فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ، فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ r فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ]. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (كَانَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه كَاتِبًا لِرَسُولِ اللهِr ) [رَوَاهُ الآجُرِيُّ فِي الشَّرِيعَةِ]. وَقَدْ جَاهَدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ r وَشَهِدَ مَعَهُ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ وَتَبُوكَ، وَبَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ r انْطَلَقَ مُعَاوِيَةُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَوَلَّاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ t لِثِقَتِهِ بِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ وِلَايَةَ بَعْضِ جُيُوشِ الشَّامِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ بَيْرُوتَ وَصَيْدَا وَغَيْرَهُمَا. وَفِي زَمَنِ عُمُرَ الفَارُوقِ t وَلَّاهُ الأُرْدُنَّ ثِقَةً بِهِ وَبِدِينِهِ وَعَدَالَتِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِهَذِهِ الأَمَانَةِ، وَقَدْ بَقِيَ أَمِيرًا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، وَفَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ فِي زَمَنِهِ قَيْسَارِيَّةَ بَعْدَ جِهَادٍ عَظِيمٍ، قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وَعُمَرُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الرِّجَالِ، وَأَحْذَقِهِمْ فِي السِّيَاسَةِ، وَأَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْهَوَى، لَمْ يُوَلِّ فِي خِلَافَتِهِ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ لِلْوِلَايَةِ مَنْ يَرَاهُ أَصْلَحَ لَهَا؛ فَلَمْ يُوَلِّ مُعَاوِيَةَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ). وَفِي زَمَنِ عُثْمَانَ t وَلَّاهُ عُثْمَانُ الشَّامَ كُلَّهَا؛ لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِ سِيَاسَتِهِ وَإِدَارَتِهِ وَحَزْمِهِ وَحِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَعِنْدَمَا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ t الشَّامَ كَانَتْ سِيَاسَتُهُ مَعَ رَعِيَّتِهِ مِنْ أَفْضَلِ السِّيَاسَاتِ، وَكَانَتْ رَعِيَّتُهُ تُحِبُّهُ وَيُحِبُّهُمْ، قَالَ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْظَمَ حِلْمًا، وَلَا أَكْثَرَ سُؤْدَدًا، وَلَا أَبْعَدَ أَنَاةً، وَلَا أَلْيَنَ مَخْرَجًا، وَلَا أَرْحَبَ بَاعًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مُعَاوِيَةَ). عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَسُنَ بَلَاءُ مُعَاوِيَةَ t فِي سَبِيلِ اللهِ، فَغَزَا البَحْرَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ t وَفَتَحَ قُبْرُصَ وَغَيْرَهَا مِنَ الجُزُرِ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ  tأَوَّلَ مَنْ غَزَا البَحْرَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ وَبِذَلِكَ نَالَ وَعْدَ النَّبِيِّ r بِالْجَنَّةِ لِأَوَّلِ مَنْ يَغْزُو البَحْرَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَفِي البُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّr  أَنَّهُ قَالَ: »أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا«. [أَيْ: أَوْجَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ دُخَولَ الجَنَّةِ بِجِهَادِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ]، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟. »قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ...«. ثُمَّ وَلِيَ الخِلَافَةَ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الكَلِمَةُ حِينَ تَنَازَلَ لَهُ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَامَ الجَمَاعَةِ، وَاسْتَمَرَّ فِي جِهَادِهِ، فَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ فِي زَمَنِهِ شَمَالًا حَتَّى بَلَغَتْ عَاصِمَةَ الرُّومِ، وَشَرْقًا حَتَّى جَاوَزَتْ كَابُلَ، وَغَرْبًا حَتَّى وَصَلَتْ جُيُوشُهُ تُونُسَ وَمَا وَرَاءَهَا، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَسَاسَ خِلَافَتَهُ بِعَدْلِهِ وَحِلْمِهِ، وَتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ ثَنَاءُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ شَهِدَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بِالْفِقْهِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (عَمِلَ مُعَاوِيَةُ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ سِنِينَ لَا يَخْرِمُ مِنْهَا شَيْئًا)، وَعَنِ الأَعْمَشِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَدْلُهُ، فَقَالَ: (فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكْتُمْ مُعَاوِيَةَ؟! قَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ يَعْنِي فِي حِلْمِهِ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ بَلْ فِي عَدْلِهِ)، وَقَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ: ( لَوْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ عَمَلِ مُعَاوِيَةَ لَقَالَ أَكْثَرُكُمْ: هَذَا المَهْدِيُّ). أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.  
  • الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ–عِبَادَاللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: إِنَّ لِصَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ  rعَلَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الحُقُوقِ، الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهَا، فَمِنْ حُقُوقِهِمُ: التَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَحُسْنُ التَّأَسِّي بِهِمْ فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ وَالدَّعْوَةِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَمِنْ حُقُوقِهِمُ: التَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ؛ تَحْقِيقًا  لِقَوْلِهِ  تَعَالَى: )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( [الحشر:10]. وَمِنْ حُقُوقِهِمُ: الكَفُّ عَنِ الخَوْضِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُثَابُونَ؛ فَالمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ، وَالمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لِاجْتِهَادِهِ. وَمِنْ حُقُوقِهِمْ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَوَلَّاهُمْ، وَنُحِبَّهُمْ، وَنَتَرَضَّى عَنْهُمْ، وَنُنْزِلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ؛ فَإِنَّ مَحَبَّتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَحُبَّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَقُرْبَةٌ إِلَى الرَّحْمَنِ، وَبُغْضَهُمْ عِصْيَانٌ وَطُغْيَانٌ؛ فَهُمْ حَمَلَةُ هَذَا الدِّينِ؛ فَالطَّعْنُ فِيهِمْ طَعْنٌ فِي الدِّينِ كُلِّهِ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ( إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ r بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلَامِ ). واعلم أن من يطعن في معاويةt  فهو طاعن في أصحاب رسول الله r لا محالة، قال أبو توبة الربيع بن نافع رحمه الله: ( معاوية ستر لأصحاب محمد r، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه )، وقال ابن المبارك رحمه الله: ( معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شزرًا، اتهمناه على القوم – أعني: على أصحاب محمد r-). وقد سئل الإمام النسائي عن معاوية فقال: (إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة). اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وعَلِيٍّ، وعَنْ سائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ولِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا،  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْمَعَ كَلِمَةَ المُسْلِمِينَ عَلَى الحَقِّ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ المُسْلِمِينَ، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرَامِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا،  اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَنَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا ومِنْ فِتْنَةِ المَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ،رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا، وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ، )رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ([البقرة:201]، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ المُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَارْزُقْهُمُ البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الخَيْرِ وَتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ،اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وإِيمَانٍ، وأَمْنٍ وَأَمانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.