محبة الرسول بين الإتباع والإبتداع
محبة الرسول بين الإتباع والإبتداع
  | , 9005   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإتباع والإبتداع .
  • ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 11 ربيع الاول 1433.

خطبة بعنوان  ( محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإتباع والإبتداع )

الخطبة الأولى:

          إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أمَّا بعد، عباد الله، لقد أوجب الله على عباده محبة نبيه – صلى الله عليه وسلم-، وتوقيره، والقيام بحقوقه وتعظيمه، حتى أنه – سبحانه وتعالى- قرن حبه بحبه، فمن زعم أنه يحب الله ولم يحب رسوله – صلى الله عليه وسلم –، فزعمه باطل واعتقاده فاسد، فإنه إنما يُحَب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله. عن أنس – رضي الله عنه- قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، وتوعد الحق – عزَّ وجل- من كان أهله وماله وسواهما، أحب إليه من الله ورسوله وجهادًا في سبيله، بقوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة:24]، والله لا يتوعد مثل هذا الوعيد الشديد، إلا على ترك واجبًا عظيم. عباد الله إنَّ محبة النبي، إنَّ محبة النبي – صلى الله عليه وسلم- ليست شعارًا يرفع، ولا ستارًا تختفي تحت وراءه المزاعم والدعوة، ولا طالما استغلت دعوة الحب لله ورسوله – صلى الله عليه وسلم-؛ لتسويغ ضروب منن البدع؛ ولتجويز ألوانٍ من المنكرات، والترويج لأنواع من الغلو باسم الحب المزعوم، إنَّ محبة النبي – صلى الله عليه وسلم- مقيدةُ بضوابط تحكمها، وحدودٍ للشرع تحفظها. وأعظم دليلٍ على صدق محبته – صلى الله عليه وسلم- طاعته وإتباعه، فالإتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأمثل، يقول الحق -سبحانه وتعالى-:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]، قال ابن كثير- رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنَّه كاذبٌ في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله". كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، ومن مظاهر طاعة النبي – صلى الله عليه وسلم- وإتباعه، تعظيمه وتوقيره، ونصرته وتعزيره، فيعظمه تعظيمًا شرعيًا يليق به بلا غلوٍ ولا جفاء، متبعًا له في منشطه ومكرهه، وفي سره وعلانيته، متحريًا إصابة السُنة في الفرائض و النوافل، ومتأدبًا بهذا به، ومتخلقًا بأخلاقه، ومتنزهًا عن البدع والمحدثات. فقد قال الله – عزَّ وجل-: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8/9]، فالتسبيح لله والتعزير بمعنى: التعظيم للرسول – صلى الله عليه وسلم-، ومن مظاهر محبته وإتباعه أيضًا، محبة سنته، والداعين إليها، ومعرفة قدرهم وحفظ حُرمتهم، والتأدب لهم، وذكرهم بالجميل؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وأعظم هؤلاء حقًا آل بيته من قرابته، وأزواجه، وصحابته – رضي الله عنهم أجمعين-، ومن لوازم محبةِ سُنته بغض من أبغضها، وأبغض أهلها، كما هو صنيع أهل البدع قديمًا وحديثًا، الذين أبغضوا السنة وأهلها. عباد الله، إنَّ من أصول السُنة التمسك بما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، والاقتداء بهم، وترك ما اُبتدع في الدين، وأُحدث في الشريعة، فكما أنَّ من لوازم محبة النبي – صلى الله عليه وسلم- وجوب إتباعه فيما نهى وأمر، فإنَّ لوازم محبته أيضًا ترك ما نهى عنه و زجر؛ لأنَّ الله – عزَّ وجل – قد أكمل الدين، وأتم النعمة فلا تجوز الزيادة فيه، كما لا يجوز النقصان منه، يقول – عزَّ وجل-: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:3]. يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: «وإيَّاكُم ومحدثات الأمور فإن كل محدثةٍ بدعة، وإنَّ كل بدعةٍ ضلالة»، وكل بدعة في الدين مردودة على صاحبها، وإن كانت نيته حسنة؛ لأنَّ الله لا يعبد إلا بما شرع، فعن عائشة – رضي الله عنها- قالت: قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد». ومن المؤسف حقًا أن نرى كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام، يهونون من شأن البدع، ويقللون من أخطارها، ويستهينون أن يعبدوا الله بما لم يشرع من الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وقد أحدثوا أمورًا في الدين بالرأي والهوى، وتجنبوا سبل الحق والهدى، وهذه غاية الخذلان، وسلم الحرمان، يقول -تبارك وتعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]، أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور رحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. أمَّا بعد، عباد الله، إنَّ عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات، إنما وقعت في الأمة في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، فكما أخبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، حيث قال: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ»، وأول بدعةٍ ظهرت بدعة القدر والإرجاء، والخوارج والتشيع والصحابة موجودون، وقد أنكروا على أهلها غاية الإنكار، ثم ظهرت بدعة  الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء، والميل إلى البدع والأهواء، ثم زادت البدع وتنوعت. وظهرت بدعة النُسّاك، وبدعة البناء على القبور، وزيارتها للتوسل بأصحابها، وذلك بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما امتد الزمن وبَعُد الناس عن منهل الشريعة، وآثار الرسالة، قلّ العلم بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما امتد الزمن وبَعُد الناس قلّ العلم وكَثُر الجهل بالدين، واتبع الناس الهوى إلا من رحم الله، والبدع إنما هي نسيج الجهل والهوى المتبع. يقول – عزَّ وجل-:﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص:50] كما أن التعصب للآراء والرجال، يحول بين المرء وإتباع الدليل، وهذا هو شأن المتعصبين في كل زمانٍ ومكان، يقول – عزَّ وجل-:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة:170]. عباد الله من الناس من قلدوا غير المسلمين في عمل البدع، فأقاموا أعياد الميلاد مثل المولد النبوي وغيره، وخصوا أيامًا وأسابيع لأعمال العباد، واحتفلوا بمناسباتٍ وذكريات، وكذلك أقاموا تماثيل شركية، ونُصبًا تذكارية، وروجوا لمآتم، ودعوا لمآثم باسم الدين، وغلا أقوامٌ حتى زعموا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- خُلق من نور، لا كما خلق البشر، وأن خلق الله خلق الكون من أجله، ولولاه ما خلقت الكائنات، وأن من علومه علم اللوح والقلم، فلم يبقوا لله شيئًا، ودعوه من دون الله. واستغاثوا به فيما لا يقدر عليه إلا خالقه، وادعوا أنهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، وأنهم  يرون النبي – صلى الله عليه وسلم- يقظة، وأنه يحضر كل مجلس أو مكانٍ أراد بجسده وروحه، وأنه يسير في أقطار الأرض، وفي الملكوت يتصرف فيها، وغير ذلك من البدع والخرافات في العقيدة، والعبادات، والسلوك، فأماتوا سنن وصيروا المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وغيروا معالم الدين حتى صارت السُنة وأهلها غرباء في بلدانٍ كثيرة. قال ابن عباس – رضي الله عنهما-: "ما يأتي على الناس من عامٍ إلا أحدثوا فيها بدعة، وأماتوا فيه سُنة، حتى تحيى البدع وتموت السنن، وبسبب هذه البدع هجر كثيرٌ من الناس كتاب الله وسُنة نبي الله، وما يتَّبِعها وما يَتْبَعهما من العلم النافع والعمل الصالح، والتمسوا الحق والهدى واليقين في غيرهما، فضلوا وأضلوا، وتركوا الابتداع في الأمة في تفرقٌ، واختلاف، ونزاعٍ، وأثار فتننًا  ومحنًا، وأورث ضلالًا وجدالًا. عباد الله إنَّ البدعة شرٌ من المعصية؛ لأنَّ العاصي يفعل المعصية، وهو يعلم أنها معصية فيدفعه ذلك على التوبة، والمبتدع يفعل البدعة، وهو يعتقد أنها دينٌ يتقرب بها إلى الله تعالى فلا يتوب منها، فلنلزم هدي النبي – صلى الله عليه وسلم-، فهو أعظم برهانٍ على محبته، ولنحذر البدع فإنها أجلى علامةً على عدم متابعته، وهي تقضي على السنن، وتباعد عن الله، وتوجب سخطه وغضبه، وتسبب زيغ القلوب عن الحق وفسادها. اللهم ثبتنا على السُنة، اللهم ثبتنا على السُنة، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.