فضل العشر الأواخر
فضل العشر الأواخر
  | , 6608   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: فضل العشر الأواخر
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 20 رمضان 1435هـ ونقلت مباشرا على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

 
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،،، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد،،، عباد الله، لقد نزلَ بكم عشرُ رمضانَ الأخيرة، فيها الخيراتُ، والأُجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورة، والخصائصُ العظيمة. فمن خصائصها: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يجتهدُ بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- "كان يجتهدُ في العشرِ الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره" رواه مسلم. وعنها قالت:" كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدَّ مِئزره و أحيا ليله، وأيقظ أهله" متفق عليه. ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشر؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يجتهدُ فيها أكثر مما يجتهدُ في غيرها، وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميعِ أنواعِ العبادة من صلاةٍ، وقرآنٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وغير ذلك؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يُحيي ليلهُ بالقيامِ، والقراءةِ، والذكر، بقلبهِ، ولسانهِ، وجوارحه، لشرفِ هذه الليالي، وطلبًا لليلةِ القدر التي من قامها إيمانًا، و احتسابًا، غُفِرَ لهُ ما تقدم من ذنبه، ومما يدلُ على فضيلةِ العشر: من هذه الأحاديث أنّ النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يوقظُ أهلهُ فيه للصلاة، والذكر، حرصًا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرةٌ به من العبادة، فإنها فُرصةُ العُمر، وغنيمةٌ لمن وفقهُ الله –عزَّ وجلَّ-، فلا ينبغي للمؤمنِ العاقل أن يُفَوِتَ هذه الفرصةَ الثمينة على نفسه، وعلى أهله، فما هي إلا ليالي معدودة رُبما يُدركُ الإنسانُ فيها نفحةً من نفحاتِ المولى، فتكونُ سعادةً له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمانِ العظيم، والخَسارةَ الفادحة، أن ترى كثيًرا من المسلمين يُمضون هذه الأوقاتِ الثمينة فيما لا ينفعُهم، يسهرُون مُعظمَ الليل في اللهو الباطل، فإذا جاء وقتُ القيامِ ناموا عليه، أو ناموا عنه، وفَوتُوا على أنفسهم خيرًا كثيرًا، لعلهم لا يُدركونهُ بعد عامهم هذا أبدا، وهذا من تلاعُبِ الشيطان بهم، ومكرهِ بهم، وصدهِ إياهم عن سبيل الله، وإِغوائه لهم، يقول –عزَّ وجلَّ-:﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر:42] ومن خصائصِ هذهِ العشر: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف فيها، والاعتكافُ: لزومُ المسجدِ للتفرُغِ لطاعةِ الله – عزَّ و جلَّ- وهو من السنن الثابتة عن نبينا – صلى الله عليه وسلم-. يقول – عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187] واعتكف النبي – صلى الله عليه وسلم-، واعتكف أصحابه معه، وبعده، فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- "اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط"، ثم قال:‹‹ إني أعتكفُ العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم أعتكفُ العشر الأوسط، ثم أُوتيتُ فقيل لي إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف››، وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت:"كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاهُ اللهُ –عزَّ و جلَّ-، ثم اعتكف أزواجه من بعده"رواه مسلم، وعنها أيضا أنها قالت:"كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرةَ أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوما" متفقٌ عليه. يقول الإمام أحمد –رحمه الله تعالى-:"لا أعلم عن أحدٍ من العلماء خلافًا أنّ الاعتكاف مسنُون". والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس، ليتفرغ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجده، طلبًا لفضلهِ وثوابه، وإدراكًا لليلة القدر، ولذلك ينبغي للمُعتكف أن يشتغِل بالذكر، والقراءةِ، والصلاة، والعبادةِ عما سواهما. عباد الله، في هذه العشرِ المباركة ليلةُ القدر التي شرفها الله –عزَّ وجلَّ- على غيرها ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالي: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:34] وصفها اللهُ سبحانه بأنها ﴿مُبَارَكَةٍ﴾ لكثرةِ خيرها، وبركتِها، وفضلِها، ومن بركتها أن هذا القرآنَ المبارك أُنزل فيها. ووصفها سبحانه بأنه ﴿يُفرق فيها كلُ أمر حكيم﴾ يعني: يُفصلُ من اللوح المحفوظ إلى الكتبةِ ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق، والآجال، والخير، والشر، وغيرِ ذلك من كل أمرٍ حكيم، من أوامر الله المُحكمة المُتقنة، التي ليس فيها خللٌ، ولا نقصٌ، ولا سفهٌ، ولا باطل، تعالى اللهُ –عزَّ وجلَّ- عن ذلك. وقال –سبحانه وتعالي-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر:12] ﴿القدر﴾ بمعني الشرفِ والتعظيم، أو بمعني التقديرِ والقضاء؛ لأن ليلة القدر عظيمةٌ، شريفةٌ، يُقدِرُ اللهُ فيها ما يكون في السَنةِ، ويقضيه من أموره الحكيمة، وأنّ الله أنزل فيها القرآن الذي به هدايةُ البشر، وسعادتُهم في الدنيا والآخرة. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ والاستفهامُ هنا: للتعظيم والتفخيم لهذه الليلة وشأنها. ﴿ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر﴾يعني: في الفضل، والشرف، وكثرة الثواب، والأجر، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه. ﴿ تنزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها﴾: الملائكةُ عبادٌ من عباد الله، قائمون بعبادته ليلًا ونهارًا، لا يستكبرون عن عبادتهِ ولا يستحسِرون يُسبحون الله والنهار لا يفتُرون، ينزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير، والبركة، والرحمة. ﴿والروح﴾هنا هو: جبريلُ –عليه السلام- خصهُ بالذكر لشرفهِ وفضله. ﴿سلامٌ هي﴾ يعني: أن ليلةَ القدر ليلةُ سلامٍ للمؤمنين من كلِ مَخُوفٍ لكثرةِ من يُعتَق فيها من النيران ويسلمُ من عذابها. ﴿حتى مطلع الفجر﴾ يعني أن: ليله القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به. ومن فضائل ليله القدر: ما ثبت عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ‹‹من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه›› متفقٌ عليه. فقوله ‹‹إيمانًا و احتسابًا››يعني: إيمانًا بالله، وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمين فيها، واحتسابًا للأجرِ وطلبًا للثواب، وهذا حاصلٌ لمن علِم بها، ومن لم يعلم؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجرِ والثواب العظيم، فاجتهدوا عبادَ الله في هذه العشر رجاءَ أن تحوزوا قيامَ وفضل هذه الليلةِ العظيمة. أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه ،إنه هو الغفورُ الرحيم.  
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبع هداهُ أمّا بعد،،، عباد الله، ليلة القدر، ليلة القدر في رمضان؛ لأن الله أنزل القرآن فيها، وقد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان قال-عزَّ و جلَّ-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:1] وقال سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة:185] وليلةُ القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي –صلى الله عليه وسلم- «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» متفقٌ عليه. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، لقول النبي –صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» رواه البخاري. وهي في السبع الأواخر أقرب لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- "أن رجالًا من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أري رُأياكم قد تواطأت -يعني اتفقت- في السبع الأواخر فمن كان مُتحريها، فليتحرها في السبع الأواخر» متفق عليه. ولمسلم عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعُفَ أحدكم، أو عجَز فلا يُغلبنَّ على السبع البواقي» وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة السابع والعشرين، لحديث أُبي بن كعب –رضي الله عنه- أنه قال: "والله إني لأعلمُ أي ليلةٍ هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة سبعٍ وعشرين" رواه مسلم. ولكنها لا تختص بليلةٍ معينة في جميع الأعوام، بل تنتقل فتكون في عامٍ ليلة السابع والعشرين مثلًا، وفي عامٍ آخر ليلة الخامس والعشرين، تبعًا لمشيئة الله وحكمته، ويدل على ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم-: «التمسوها في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى-أي من الشهر-» رواه البخاري. قال ابن حجر – رحمه الله تعالى-: "أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل". وقد أخفى سبحانه علمها على العباد، رحمةً بهم، ليكثُرَ عملهم في طلبها، واختبارًا لهم أيضًا ليتبيَّن بذلك من كان جادًا في طلبها، حريصًا عليها، ممن كان كسلانًا مُتهاونًا، عباد الله، ليلة القدر يُفتحُ فيها الباب، ويُقربُ فيها الأحباب، ويُسمعُ فيها الخطاب، ويُردُ الجواب، ويُكتبُ للعاملين فيها عظيم الأجر، ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾. فاجتهدوا -رحمكم الله- في طلبها، فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة، ففي الغفلة الغضب. اللهم بلغنا هذه الليلة يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يقوم ليلة القدر، اللهم اجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمؤمنين، والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.