تخصيص آخر العام ببعض العبادات وشهر الله المحرم
تخصيص آخر العام ببعض العبادات وشهر الله المحرم
  | , 2837   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: تخصيص آخر العام ببعض العبادات وشهر الله المحرم
  • ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 27 ذي الحجة 1434هـ

خطبة بعنوان " تخصيص آخر العام ببعض العبادات وشهر الله المحرم "

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: عباد الله، اتقوا الله –تعالى- بامتثالكم لأوامره، واجتنابكم لمناهيه، وتوددوا إليه بالإكثار من الصالحات، والمسارعة إلى الطاعات، وتبصروا في هذه الأيام والشهور والأعوام، وكيف تصرمت يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، ونحن في غفلة كبيرة عن الآخرة، وتنافس شديد على الدنيا العاجلة الآجلة، وضعف في الإقبال على الله والإنابة إليه، وتقصير في الأعمال الصالحة، وتقليل من الحسنات الزاكية، وإكثار من السيئات المهلكة، ألا وإنه قد آذن بالانصرام إلى غير رجعة، عام من أيام بقائكم في هذه الدنيا، فمن أودعه صالح العمل من قيام بالعبادات والحقوق والواجبات، وإحسان في المعاملات، وبعد عن الشركيات والبدع والمحرمات، فالخير بشراه، ومن فرط فيه فملأ وقته بالتهاون في العبادات، والتقصير في الحقوق والواجبات، والإساءة في المعاملات، والإكثار من الذنوب والسيئات، فأحسن الله عزاءه. عباد الله، اتقوا الله –تعالى- بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة المنجية، والمسارعة إلى الحسنات النافعة، والإحسان في العبادات والمعاملات، واستدركوا عمرًا ضيعتم أوله، فلا تخربوا بالسيئات ما بقي منه، فرحم الله عبدًا اغتنم أيام الشباب والقوة، وأوقات الصحة والفراغ، فأسرع بالتوبة والإنابة قبل طي الكتاب، وأكثر من الطاعات قبل دنو الأجل، قبل أن يتمنى ساعة من ساعات العمر والحياة ليستدرك ما قصر فيه، أو يزداد ليترقى في النعيم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الحشر:18-19]. عباد الله، إنكم داخلون بعد أيام قليلة جدًّا في أحد الأشهر الأربعة الحرم، ألا وهو شهر الله المحرم، الذي شرفه الله وفضله، وأضافه النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الله وعظمه، فاستدركوا فيه ما وقع من تقصير فيما مضى من العمر، بالإكثار من الصيام فيه، فقد صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم»، بل إن صيام يوم العاشر منه يكفر ذنوب سنة كاملة؛ فقد صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». واحذروا –سلمكم الله- أن تظلموا أنفسكم في هذا الشهر وبقية الأشهر الأربعة الحرم بالسيئات والخطايا، بالشركيات والبدع والضلالات، بالذنوب والمعاصي، بالفسق والفجور، بالظلم والعدوان، بالغش والكذب، بالغيبة والبهتان، بالنميمة والحقد والحسد، وغير ذلك من الذنوب؛ فإن الله –جل شأنه- قد زجركم ونهاكم عن ذلك فقال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة:36]. ثبت عن قتادة بن دعامة –رحمه الله- أنه قال: إن الظلم في الشهر الحرام أعظم خطيئةً ووزرًا من الظلم فيما سواه. عباد الله، هذه ثلاث وقفات نافعات يجدر بالمسلم –سدده الله- أن ينتبه لها، ويتفقه حكمها، ويتبصر بواقع الناس معها. الوقفة الأولى: عن بداية العمل بالتأريخ الهجري، يقول الإمام محمد بن عثيمين –رحمه الله تعالى-: ولم يكن التاريخ السنوي معمولًا به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر –رضي الله تعالى عنه- واتسعت رقعة الإسلام، واحتاج الناس إلى التأريخ في أعطياتهم وغيرها، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته –رضي الله عنه- كتب إليه أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه- أنه يأتي إليك كتب ليس لها تأريخ، فجمع عمر الصحابة –رضوان الله عليهم- فاستشارهم، فقال بعضهم: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتأريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرخوا بمولد النبي –صلى الله عليه وسلم-، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من هجرته، فقال عمر –رضي الله عنه-: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، فأرخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك، ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة، فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقال بعضهم: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم- أن يكون من المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي –صلى الله عليه وسلم- والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام. لذلك ينبغي على المسلم أن يعتز بتأريخه الهجري، وأن يعرفه وأن يكتبه. الوقفة الثانية: عن بعض المحرمات التي تقع من الناس عند قرب دخول العام الهجري الجديد أو حلوله، ومن هذه المحرمات الاحتفال في المساجد أو البيوت أو الاستراحات أو غيرها من الأماكن بذكرى هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وعقد الندوات وتخصيصها في هذا الوقت، والمحتفل بهذه الذكرى لا يسير باحتفاله على سنة النبي –صلى الله عليه وسلم-، بل هو مشاق لها ومخالف؛ لأنه –صلى الله عليه وسلم- لم يحتفل، ولا حث أمته ودعاهم إلى الاحتفال، ولا احتفل به السلف الصالح. واعلموا –سددكم الله- أن المحتفل بهذه الذكرى متشبه بصنفين من الناس: الصنف الأول: أهل الكفر بجميع مللهم؛ فهم من جرت عادتهم على الاحتفال بالحوادث ووقائع الأيام وتغيرات الأحوال. والصنف الثاني: أهل الضلال والانحراف من الباطنية والرافضة وأضرابهم، فهم من أحدث هذا الاحتفال وغيره من الاحتفالات في بلاد المسلمين، ذكر الفقيه الشافعي المعروف بالمقريزي –رحمه الله تعالى- في كتابه (الخطط) أن الاحتفال برأس السنة الهجرية كان من جملة الاحتفالات التي اخترعتها الدولة العبيدية الباطنية التي استولت على بلاد المغرب ومصر، وفعلت بعلمائها ومؤذنيها وسكانها من الجرائم ما لا يكاد يوصف، بل قال عنهم مؤرخ الإسلام شمس الدين الذهبي –رحمه الله-: إنهم قلبوا الإسلام، وأعلنوا الرفض، وأبطلوا مذهب الإسماعيلية، ثم نقل عن القاضي عياض أنه قال في شأنهم: أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة. ولا ريب أن التشبه بهذين الصنفين شر على فاعله، وخسارة وبوار؛ فقد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، ثم إن هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة -لمن له عقل وإدراك- لم تكن في شهر الله المحرم، ولا في أول يوم منه، وإنما كانت في شهر ربيع الأول، كما ذكر أهل التاريخ والسير، على خلاف بينهم، والذي وقع من الصحابة إنما هو تحديد السنين الإسلامية بسنة الهجرة بجعلها أول السنين، وليس التحديد بيوم الهجرة، وأنه هو أول أيام السنة. ومن هذه المحرمات تخصيص آخر جمعة من العام بمزيد من العبادات والطاعات، وتخصيصه بدعاء يسمى دعاء آخر العام، أو دعاء أول السنة، يدعى به في آخر سجدة، أو بعد الركوع من آخر صلاة في العام المنصرم، أو أول صلاة في العام الجديد، وقد يدعى بهذا الدعاء في أماكن الاحتفال بذكرى الهجرة، أو يتناقله الجاهلون بأحكام الشريعة عبر رسائل الهواتف ومواقع الإنترنت، ولا ريب في حرمة هذا التخصيص؛ إذ لم يأت له ذكر لا في القرآن ولا في السنة، ولم يفعله أهل القرون الأولى المفضلة، فلو كان أمرًا جائزًا لسبقنا إليه الصحابة، وكانوا من أول من يفعله، ومن السابقين إليه، والناشرين والداعين له. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد: عباد الله، أما الوقفة الثالثة والأخيرة أنه ينتشر في هذه الأيام عبارات مثل: احرص على أن تطوي صحيفة أعمالك آخر السنة باستغفار وتوبة وعمل صالح، ونحو هذه الكلمات، وهذه الرسالة وأمثالها مما يحرم على المسلم والمسلمة إرسالها وتناقلها ونشرها بين الناس؛ وذلك لأمور ثلاثة: الأول: أن فيها دعوة الناس إلى تخصيص آخر العام بشيء من العبادات، وتخصيص آخره بعبادة لم يأت لا في القرآن، ولا في السنة، ولا نقل عن السلف الصالح؛ فعلى هذا يكون من البدع المحرمة، وتكون هذه الرسالة دعوة إلى إحياء البدع ونشرها بين الناس. والأمر الثاني: أن القول بأن صحائف الأعمال تطوى في آخر كل عام قول يحتاج من صاحبه إلى دليل من القرآن والسنة؛ لأن طي الكتاب من الأمور الغيبية، فأين دليل مرسل هذه الرسالة على هذه الطي حتى يسارع ويسابق إلى إرسالها ونشرها من غير تروٍّ ولا مراجعة ولا خوف من الله ومراقبة؟ ثم إن التأريخ الهجري -كما بينا- لم يوضع إلا في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فيا ترى متى كانت تطوى صحائف أعمال من كان قبل وضعه؟ والأمر الثالث: أن المقرر عند أهل العلم أن صحائف أعمال العبد إنما تطوى بالموت، ولا تزال صحيفته يكتب فيها ما عمل من خير ومن شر حتى ينتهي أجله. فاحذروا –عباد الله- من مثل هذه الرسائل وغيرها، وتأكدوا قبل أن ترسلوا أي رسالة؛ فقد تكون ممن ينشر بدعة من حيث لا تشعر، فتأخذ وزرها ووزر من عمل بها. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، واجعل أعمالنا كلها في رضاك، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.