النهي عن المظاهرات وموقف الإمام أحمد
النهي عن المظاهرات وموقف الإمام أحمد
  | , 6382   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: النهي عن المظاهرات وموقف الإمام أحمد .
  • ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 24 جمادى الاخرة 1432.
 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, أما بعد:

عباد الله..لقد أمر الله تعالى بالاجتماع، ونهى عن التفرق والنزاع، وذكرنا بنعمته علينا أن جمع بين قلوبنا بعد أن كان العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضًا، وينهب بعضهم بعضًا، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[آل عمران:103].

ونهانا أن نتفرق كما تفرق أهل الكتاب قبلنا فقال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران:105].

و كذلك جاءت وصايا رسولنا- صلى الله عليه وسلم- كثيرة في الحث على الاجتماع، والنهي عن الافتراق. عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثة، ويسخط لكم ثلاثة، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تُناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال».

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فقد جُمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والدين.

ومن أعظم الأسباب التي تجمع الأمة ولا تفرقها، ويكون بها صلاح الفرد والمجتمع هو السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين، فإن الخروج عليهم وعن طاعتهم بأي طريقة من طرق الخروج سواء كانت بالسيف أو باللسان أو بالمظاهرات والاعتصامات وغيرها هو سبيل التفرق والنزاع، وضياع الأمن والأمان، لذلك كانت أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة جدًا تتجاوز المئات من الأحاديث كلها تحث على السمع والطاعة لولاة الأمر، وتنهى عن الخروج عليهم.

عن عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: «دعانا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبايعناه، فكان مما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» متفق عليه.

ومعنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و أثرة علينا أي أن اختصاص واستئثار الولاة بأمور الدنيا دون الرعية لا يمنع السمع والطاعة، فطاعتهم لا تتوقف على إيصالهم حقوق الرعية، بل على الرعية الطاعة ولو مُنعوا حقوقهم.

و عن وائل بن حجر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه رسول الله، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حمُلوا وعليكم ما حُملتم» رواه مسلم.

وعن أبي ذر الغفاري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع و أطيع و إن كان عبدًا مجدع الأطراف» رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث.

ووصايا السلف في هذا كثيرة جدًا، بل هو إجماع السلف الصالح لعلمهم بأهمية هذا الباب، وخطورة منازعة ولي الأمر والخروج عليه.

قال الإمام ابن أبي حاتم -رحمه الله-: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم ...إلى أن قال: ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.

وبذلك قول أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أمرنا أكابرنا من أصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نسُب أمرائنا، ولا نغشهم، ولا نعصيهم، وأن نتق الله ونصبر فإن الأمر قريب.

من هنا نعلم أن ما يطلبه بعض أهل الفتن من إقامة تجمعات للمظاهرات أو الاعتصامات أمر ليس بمشروع، ولا يجوز المشاركة في شيء من ذلك، وإن قالوا: إنها سلمية فإنما هي خروج على ولاة الأمر، وسبيل لحصول النزاع والشقاق، فهو أسلوب محرم لأسباب كثيرة:

منها أنه أسلوب لم يأمر به الله ولا رسوله -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ-، ولا سبق إليه السلف الصالح، وما كان هذه صفته فلا يكون فيه خيرًا.

ثانيًا: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمنا الطريقة شرعية لمناصحة الحاكم واستصلاحه، ولم يذكر لنا هذا الأسلوب فدل على أنه عمل غير مشروع.

وثالثًا: أن هذا الأسلوب من أساليب الإنكار مأخوذ عن النصارى وأمثالهم فليس هو من طرق المسلمين، وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم».

ورابعًا: أن المظاهرات يصحبها عدد إضافي من المنكرات -كما هو مشاهد في وسائل الإعلام -من السب واللعن والصياح والتدمير والإفساد والتحريق والاختلاط، ثم أيضًا قد يسقط فيها عدد من القتلى والجرحى والمصابين إلى غير ذلك مما يطول وصفه، ولا يخفى على أكثركم -وإن كانوا يزعمون في بدايتها أنها سلمية- والذي يحصل حولنا في عدد من بلدان المسلمين دليل ملموس على ذلك.

وخامسًا: أن هذه المظاهرات غالبًا ما تكون ورائها جهات خفية تحرك العوام والرعاة تحت شعار الفقر والبطالة والإصلاح وغير ذلك، وكل القصد أن يتسلقوا على ظهورهم إلى تحقيق مآربهم.

ولهذه المفاسد وغيرها حذر أئمة السنة منها كالشيخ ابن باز وابن عثيمين -رحمهم الله- وغيرهم من أهل العلم المعاصرين.

يقول الشيخ بن باز -رحمه الله تعالى-: لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج، ولكني أرى أنها من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور، ومن أسباب ظلم بعض الناس، والتعدي على بعض الناس بغير حق.

يقول العلامة محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى-: ولا نؤيد المظاهرات أو الاعتصامات وما أشبه ذلك لا نؤيده مطلقًا، ويمكن الإصلاح بدونها، لكن لا بد أن هناك أصابع خفية داخلية أو خارجية تحاول بث مثل هذه الأمور.

وفتاوى علماء السنة في هذا كثيرة، فهذه المظاهرات لا تجوز ولو كانت سلمية؛ لأنها ليست من الإسلام في شيء، فاحذروا عباد الله من الانسياق خلف هذه الشعارات الزائفة، ولا تسيروا خلف عواطفكم، فإن (العاطفة عاصفة) كما يقال وتمسكوا بسنة نبيكم وطرق سلفكم تكونوا من الناجين.

أقول ما تسمعون, واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:

عباد الله .. إن السلامة كل السلامة، والنجاة كل النجاة في السير على طريق السلف الصالح في تمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فطاعتنا لولاة أمورنا فيما ليس بمعصية هو إتباع لله ولرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس خضوعًا ولا عبودية، وفيه من المصالح الكثيرة على الفرد والمجتمع في دينهم ودنياهم.

ولنقف وقفة مع موقف عظيم لإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- حين دعاه أقوام إلى الخروج على ولاة عصره مع دعوتهم للبدع العظيمة، وظلمهم لأهل السنة وتعذيبهم لهم، فما موقفه من ذلك -رحمه الله-؟هل دعا إلى الخروج عليهم؟ هل نادى بالمظاهرات؟ هل سوغ الاعتصامات؟ هل جعل يوم الجمعة -الذي هو أفضل أيام الله ويوم طاعة لله- هل جعله جمعة غضب ومعصية لله؟ كلا، بل دعا إلى الصبر، وحث على السمع والطاعة لعلمه بمخالفة الخروج بالأدلة الشرعية، وبالمصالح المرعية.

ومن ذلك ما جاء عن أبي الحارث الصائغ -رحمه الله تعالى- حين قال: سألت أبا عبد الله -أي الإمام أحمد- في أمر كان حدث ببغداد وهم قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: -سبحان الله- الدماء الدماء لا أرى ذلك، ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه؟ -يعني أيام الفتنة- قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان.. فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة وقال: الدماء.. لا أرى ذلك ولا آمر به.

وفي ولاية الواثق اجتمع قوم من بغداد إلى أبي عبد الله فقالوا :يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا      –يعنون إظهاره لخلق القرآن وهذا أمر كفري بإجماع أهل العلم- قالوا: هذا القول أو هذا الأمر قد تفاقم وفشا، فقال لهم أبو عبد الله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا بسلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، و لا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا؛ حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر، وجرى في هذا كلام كثير، ونظر فقيل للإمام أحمد: هل هذا عندك صواب؟ قال: لا هذا خلاف الآثار التي أُمرنا فيها بالصبر.

هذا هو الموقف السني المتمسك بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.

عباد الله ..إن نعم الله علينا ظاهرة، فإننا نعيش في أمن و أمان، و عندنا ولاة أمور يراعون رعيتهم ويحفظون لهم حقوقهم منذ أن يولدوا إلى أن يموتوا وهم يتقلبون في نعم هذه البلاد، فاحفظوا هذه النعم بشكر الله عليها والعمل بطاعة الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الرعد:11].

اللهم أصلح ولاة أمورنا وأعنهم لما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير، وتنهاهم عن الشر والفساد، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أحفظ بلاد المسلمين وأصلح ولاة أمورهم، واكفهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقهم الولاة الصالحين الذين يعينونهم على دينهم ودنياهم، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.