احذروا كفران النعم
احذروا كفران النعم
  | 6627   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: احذروا كفران النعم .
  • ألقاها : الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء - 29 ذو الحجة 1432.

  خطبة بعنوان ( احذروا كفران النعم ). الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعده: فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعده: عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه واشكروه على فضله ونعمه ولا تَكْفروه؛ فإن النعم تزيد بشكرها، وتزول بكفرها ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم: 7]. عباد الله إن مما قصَّ الله -عز وجل- علينا من أخبار السابقين للعلم، والعظة، والاعتبار  قصةُ قوم سبأ، وسُمِّيت السورة باسمهم؛ لعظيم ما في قصتهم من العظة، وبداياتُ السورة فيها بيان ربوبية الله  وقدرته –سبحانه-، وإلوهيته -عز وجل- وفيها الإخبار عن إنكار كفار مكة للبعث والجزاء، وسخريتهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد هدَّدهم الله -تعالى- على ذلك بالعذاب مِن فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ثم أعقب ذلك بقصة داود وسليمان -عليهما السلام- ثم قصة قوم سبأ, ويشترك أصحاب القصتين في أن الله -تعالى- قد أنعم عليهم بالخيرات، ورزقهم من الطيبات؛ حتى شبعوا وأَمِنُوا، ولكن آل داود آمنوا وشكروا، وآل سبأ بطروا وكفروا، فكانت القصتان مثَلين لأمَّتين إحداهما شاكرة، والأخرى كافرة، وكانت أمَّة داود الشكورة المرحومة مثلاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن آمن معه، وفي ذلك تثبيت لهم على إيمانهم، وربط على قلوبهم، كما كانت أمَّة سبأ الكفورة المعذَّبة مثلاً لكفار قريش؛ لإنذارهم من العذاب كما عذب الله -تعالى- قوم سبأ, فجدير بأهل القرآن وهم يتلون هذه القصة أن يدركوا هذا المعنى العظيم، وأن يتَّعظوا بما حلَّ بقوم سبأ؛ لئلا يسلكوا مسلكهم، وليجانبوا طريقهم, إن سبأً قومٌ اكتملتْ نِعَمُهم، ودُفعت النقم عنهم، وكُفُوا مئونة الطعام والشراب، فأرزاقُهم حاضرة، وأرضهم مخضرَّة، وسماؤهم ممطرة، وثمارهم يانعة، وضروعهم دارَّة، تحيط بمساكنهم الأشجارُ والثمار، وتملأ جنبتي بلادهم؛ فلا يسيرون إلا في خضرة من الأرض، ولا يأكلون إلا أطيب الطعام والثمار، يشربون من الماء أعذبَه، ويتنفسون من الهواء أنقاه؛ حتى ذكر المفسِّرون خلو أرضهم وأجوائهم من الهوام والحشرات المؤذية، وهذا من أكمل ما يكون للعيش الرغيد، والراحة التامة، والنعم الكاملة, ولم يطلب ربُّهم -سبحانه- منهم مقابلَ هذه النعم المتتابعة إلا شكرَه عليها، بإقامة دينه، وتحقيق توحيده؛ ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[سبأ: 15]. فوصفها الله -تعالى- بأنها بلدة طيبة؛ فكل شيء فيها طيِّب, لكنهم قابلوا دعوة الله -تعالى- لهم بالإعراض والاستكبار، ولم يشكروا نعم الله عليهم فاستحقوا العذابَ والدمار ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾[سبأ: 16]. ففتح الله تعالى عليهم سدَّهم؛ ليغرق بلادهم، ويهلك حرثهم وأنعامهم، ويتلف أشجارهم وثمارهم، فأضحتْ بلادُهم بعد الخضرة مغبرَّةً، وبعد الجدة مقفرةً، وبعد السَّعة ضيقةً، وذهبتْ نعمهم في لمح البصر، وصاروا مُمحِلِين لا يلوون على شيء. فما أعظمَ قدرةَ الله -تعالى- على البشر, وما أسرعَ زوالَ النعم وتبدُّلَ الأحوال وذلك بما كسبتْ أيديهم، فإن الله تعالى: ﴿لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. فلم تتغير نِعَم سبأ عليهم إلا لما أعرضوا عن دين الله تعالى، ولم يشكروا له نعمه -عز وجل- ولذلك بيَّن الله تعالى سببَ زوال نعمتهم، بقوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ﴾[سبأ:17]. لقد كان من عظيم ما أنعم الله به عليهم، أنهم كُفُوا مئونة السفر ومشقته، ورُفِع عنهم عنَتُ الطريقِ ولصوصه، فارتاحوا في سفرهم وأَمِنوا، وسببُ ذلك اتِّصالُ القرى بينهم وبين الأرض المباركة، فكانوا يسافرون من اليمن إلى الشام في أمن وطمأنينة، لا يحملون للسفر زادًا لوفرته في طريقهم، ولا يعدون له عدة، بل يسيرون فيه ما شاءوا، ويستريحون في القرى التي في طريقهم، وهي على مراحل لا تنقطع عنهم؛ ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾[سبأ: 18]. فتمَّتْ نعم الله -تعالى- عليهم في بلادهم، ثم أكملها -سبحانه وتعالى- لهم في أسفارهم، فبَلَغ مِن كفرهم بنعمة ربِّهم عليهم في أسفارهم أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾[سبأ: 19]، فبطروا هذه النعمة العظيمة، ودَعوا بالمشقَّة والبُعد, فكانوا كما كانت بنو إسرائيل حين استبدلوا في مطاعمهم الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد كان قوم سبأ ظالمين لأنفسهم بهذا التعدي في الدعاء، مع الإعراض والتحدي، فكانت عقوبة الله تعالى لهم أن أفقرهم بعد الغنى، وشرَّدهم بعد الاستقرار، وفرَّقهم بعد الاجتماع، ومزَّقهم في الأقطار، وجعل خبرَهم أحاديثَ يتحدَّث بها الناس في مجالسهم، ويحكون ما جرى لهم، وضرب العربُ المثلَ بتفرُّقهم وشتاتهم ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾[سبأ: 19]. إن خبرهم كان آياتٍ لكل صبار شكور؛ لأنهم لم يكونوا شاكرين نِعَمَ ربِّهم عليهم، ولم يكونوا صابرين لما ذهبتْ خيراتُهم، وأمحلتْ أرضُهم، وهذا من خذلان الله تعالى لهم، وإلا لو صبروا وتابوا، لعاد الله تعالى بالخير عليهم كما سلبه منهم بكفرهم، ولكنهم قوم حُرموا الصبر كما حُرموا الشكر، فمُزِّقوا كلَّ ممزَّق، وفُرِّقوا شذرَ مذرَ. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.   الخطبة الثانية: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد: عباد الله إن هذه القصة العظيمة لعظة وعبرة لكل صبار شكور ولكل مؤمن ذي عقل, كما أنها دليل على أن من سنة الله تعالى في عباده أنه -سبحانه- يجزي الشاكرين زيادةً ونماء، ويجازي الكافرين خذلانًا وعذابًا ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ﴾[سبأ: 17]. فمَن فهم هذه السُّنةَ الربانية وعمل بموجبِها، كان له الأمن والنعيم في الدنيا والآخرة، ومَن حاد عنها، وأعرض عن تذكير الله تعالى بها، كان من الهالكين, ومن رأى حالنا، علم أن نعم الله -تعالى- كثيرة, فرِزْقُ الله تعالى يتتابع علينا، ونعمه تحيط بنا، وقد أمَّنَنا في أوطاننا، ويَسَّر أسفارنا، ومِن كل خير أعطانا, ويسر أرزاقنا, فالطفل من ولادته والدولة ترعاه في صحته ومرضه, وترعاه في شبابه ودراسته وفي كبره وعمله وفي تقاعده وشيخوخته, آمنين مطمئنين, لا نخاف على أرزاقنا وأهلنا. نحن في بلد يحسدنا عليه كثير من غيرنا, نعم الله علينا فيه كثيرة, حكامًا ومحكومين, فينبغي علينا أن نحافظ على هذه النعم بطاعة ربنا -سبحانه وتعالى-, فلنحذر أن نكون كما كان قوم سبأ من الطغيان والعصيان وانتشار الفساد والكفران, ولنكن كآل داود شكرًا للنعم ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13]. اللهم اجعلنا من الشاكرين, ولا تجعلنا من الكافرين, اللهم إنا نسألك أن تزيد علينا في النعم وأن تبعد عنا النقم, اللهم أتم علينا نعمك الظاهرة والباطنة، اللهم آمنا في أوطاننا واجعل ديارنا ديار أمن واستقرار، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا, وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات, الأحياء منهم والأموات, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.