كفانا تفريطاً في تلاوة كتاب الله
كفانا تفريطاً في تلاوة كتاب الله
  | 7372   |   طباعة الصفحة


  • خطبة بعنوان: كفانا تفريطاً في تلاوة كتاب الله.
  • ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة في يوم 3 جمادي الأول 1442هـ في مسجد السعدي بالجهرا.

 
  • الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). أما بعد: لقد أنزل الله تعالى القرآن هدى ورحمة للعالمين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، هو كلام الله تعالى ليس بمخلوق فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمل العبد من قراءته، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾. عباد الله: هذا كتاب الله بين أيديكم، ومساجدنا وبيوتنا مليئة بالمصاحف، فهل سألت نفسك يوما وحاسبتها كم حظّك من قراءة القرآن، كم مرة تفتح المصحف في اليوم أو في الشهر، كم مرة تختم القرآن في السنة أو في العمر، لاشك أن النفس تحتاج إلى محاسبة ومعاتبة ومتابعة، فأنت المنتفع بكلام الله حين تقرأه، ولك بذلك الثواب العظيم والأجر العميم، ومن حُرُم قراءة القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار فقد فاتته الأجور الكبيرة وفرط في حسنات كثيرة، فتلاوة القرآن هي تجارة أهل الإيمان التي لا تَبلى ولا تَخسر، (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، فبتلاوة القرآن تهدأ النفس ويرتاح البال وتذهب الغموم والهموم، كم من متبلى يشتكي الهم والضيق ولا يعلم أن سبب ذلك هو بُعده عن قراءة القرآن، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فهو الموعظة والتذكير والشفاء لما في الصدور، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، ومن دعاء زوال الهم والغم يرشدنا النبي ﷺ إلى أن القرآن به راحة القلوب وزوال الهموم، فعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله ﷺ قال: (مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّى. إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً). قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: (بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا). [رواه أحمد وصححه الألباني]. عباد الله: فأهل القرآن والمتدارسون له في الحِلَق تتنزل عليهم رحمات الله من أوجه كثيرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ(، فما أعظم هذا الفضل وما أجزل هذا العطاء لأهل القرآن، فالله يعلي شأنهم ويذكرهم في الملأ الأعلى، وكفى بذلك فضلاً وفخرًا وشرفًا، قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، ومن رفعة أهل القرآن أن جعلهم الله هم أهله وخاصته، فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) [رواه ابن ماجة وصححه الألباني]، وقال ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) [رواه مسلم] عباد الله: لقد شبه النبي ﷺ قارئ القرآن من أهل الإيمان بالأترجة، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي ﷺ قال: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ...)، ومن فضل الله تعالى في الآخرة على أهل القرآن أنه يأتي شفيعًا لأصحابه الذين اجتهدوا في قراءته وجعلوا من أوقاتهم للقرآن نصيبا ومن كلام الله حظا، ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي ﷺ قال: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، بل يأتي يجادل ويماحل عن صاحبه حتى يقوده إلى الجنة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ» [رواه الطبراني وصححه الألباني]، فإذا دخل العبد الجنة ارتفعت منزلته ودرجته بحسب حفظه وتلاوته للقرآن في الدنيا، فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ :«يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرؤُهَا» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، فالعبد له بكل حرف حسنة إلى عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ r:«مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَه ، وَالْحَسَنَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لاَ أَقُولُ آلم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيْمٌ حَرْفٌ» [رواه الترمذي وصححه]. فاجتهدوا عباد الله في تلاوة كتاب الله، وكفانا تفريطا في الأجور الكثيرة، اجعلوا للقرآن وردا ووقتا وحظا، فكم أشغلتنا هواتفنا ومجالسا وأصحابنا عن كلام ربنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتكم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
  • الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. عباد الله: عند قراءة القرآن لابد للعبد أن يتأدب بآداب كثيرة وردت في النصوص الشرعية، فمن تلك الآداب، إخلاص النية لله تعالى فيها قال الله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين)، والتلاوة من أجل العبادات وأفضل القربات، ومن يقرأ القرآن ليقال عنه قارئ ويريد به السمعة فهو من أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة، ومن آدابها أن يقرأ بقلب حاضر يتدبر ما يقرأ ويتفهم معانيه ويخشع عند ذلك قلبه ويستحضر بأن الله يخاطبه لأن القرآن كلام الله عز وجل، ومن آدابها أن يقرأ القرآن على طهارة لأنه من تعظيم كلام الله عز وجل ولا يقرأ القرآن وهو جنب حتى يغتسل أو يتيمم إن عجز عن استعمال الماء للنصوص الواردة في هذا، ولا يمس المصحف إلا على طهارة، ومن آدابها الابتداء بالاستعاذة، وأما البسملة فيبسمل أول كل سورة إلا في سورة التوبة، ويحسن صوته بالقرآن ويترنم به ويقف عند عجائبه ويحرك به القلوب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أذن الله لشيء _ أي ما استمع_ كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)، ومن آدابها السجود إذا مر بآية سجدة فيستحب له السجود، فاستعينوا عباد الله بالله على قراءة كلامه وتدبره، واجتهدوا في جعل القرآن ربيع قلوبكم، قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لو أن قلوبنا طهرت ما شبعت من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف).