مواعظ لقمان لإبنه
مواعظ لقمان لإبنه
  | , 6121   |   طباعة الصفحة


  • خطبة الجمعة : مواعظ لقمان لإبنه
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  •  المكان: خطبة جمعة في يوم 15 شعبان - عام 1438هـ في مسجد السعيدي بالجهراء، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

 
  • الخطبة الأولى:
  إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. أمَّا بعد... فإنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وشرّ الأُمور مُحدثاتها، وكُلَّ مُحدثة بِدعة، وكُلَّ بِدعة ضلالة، وكُلَّ ضلالة في النّار. أمَّا بعد... عباد الله، إنَّ في القرآن الكريم -كما نعلم جميعًا- سورة يقال لها: سورة لقمان، في هذه السورة ذكر الله -جلَّ وعلا- خبر عبدٍ من عباده الصاحين، ووليٍ من أولياءه المتقين، آتاه الله الحكمة ومنَّ عليه بالبصيرة، ووفقه لسديد القول ورشيد العمل، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان:١٢]. عباد الله، إنه رجلٌ صالح ووليٌ من أولياء الله، وحكيمٌ من الحكماء، وهبه الله -جلَّ وعلا- الحكمة؛ لأنه كان صادقًا مع الله في أقواله وأعماله، جادًا في التقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- بزاكي الطاعات، وجميل العبادات،كان قليل الكلام كثير الفكرة والتدبر، منَّ الله عليه بالحكمة ووهبه إياها، وإن من عظيم مكانة هذا العبد ورفيع شأنه، أن الله -عزَّ وجلَّ- ذكر لنا في القرآن خبره، وأنبأنا عن وصيته لابنه، وموعظته لولده وفلذة كبده، وهي عباد الله، وصية نوَّه الله -عزَّ وجلَّ- بها في القرآن، وذكر ألفاظ تلك الوصية عن لقمان الحكيم؛ لتكون للآباء والمعلمين والمربين، نبراساً وأنموذجاً يحتذون حذوه، ويسيرون على نهجه. يقول الله –عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان:١٢]، يخبر الله تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان، بالحكمة وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالمًا، ولا يكون حكيمًا، وأمَّا الحكمة فهي مستلزمةٌ للعلم؛ بل للعمل. ولهذا فُسِّرت الحكمة بالعلم النافع والعمل الصالح، ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة، أمره أن يشكره على ما أعطاه؛ ليبارك له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين يعود نفعه عليهم، وأن من كفر فلم يشكر عاد وبال ذلك عليه، والله غنيٌ عنه، حميدٌ فيما يقدره ويقضيه على من خالف أمره، فغناه تعالى من لوازم ذاته، وكونه حميدًا في صفات كماله، حميدًا في جميل صنعه، من لوازم ذاته، وكل واحدٍ من الوصفين صفة كمالٍ واجتماع أحدهما إلى الآخر كمالٌ إلى كمال، ثم ذكر أصول الحكمة، وقواعدها الكبار. فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ [لقمان:١٣]. قال له قولًا يعظه به، والوعظ الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، فأمره بالإخلاص ونهاه عن الشرك، وبيَّن له السبب في ذلك فقال: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان:١٣]، ووجه كونه عظيمًا، أنه لا أفظع وأبشع ممن سوى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوى ذلك الذي لا يملك من الأمر شيئًا بمن له الأمر كله، وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرةٍ من النعم، بالذي ما بالخلق من نعمةٍ في دينهم، ودنياهم، وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلمًا ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدةً لمن لا يسوى شيئًا، فظلم نفسه ظلمًا كبيرًا.  عباد الله، ولما أُمِر بالقيام بحقه، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد، أُمر بالقيام بحق الوالدين فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ﴾[لقمان:14] ، أي: عهدنا إليه وجعلناه وصيةً عنده، سنسأله عن القيام بها، هل حفظها أم لا؟ فوصيناه بوالديه، وقلنا له: اشكر لي بالقيام بعبوديتي وأداء حقوقي، وألا تستعين بنعمي على معصيتي، ولوالديك بالإحسان إليهما، بالقول اللين والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهم، وإجلالهم، والقيام بمؤنتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه بالقول أو الفعل، فوصيناه بهذه الوصية وأخبرنا أن ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، أي: سترجع أيُّها الإنسان إلى من وصاك وكلفك بهذه الحقوق، فيسألك هل قمت بها؟ فيثيبك الثواب الجزيل، أم ضيعتها؟ فيعاقبك العقاب الوبيل. ثم ذكر السبب الموجب لبرد الوالدين في الأم، فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾[لقمان:14]، أي: مشقةً على مشقة، ولا تزال تلاقي المشاق من حين يكون نطفة، من الوحم و من المرض والضعف والثقل وتغير الحال، ثم وجع الولادة ذلك الوجع الشديد، ثم فصاله في عامين وهو ملازمٌ لحضانة أمه وكفالته ورضاعها، وتحمل هذه الشدائد، مع شدة الحب فأكد على ولده، وأوصى إليه بتمام الإحسان للأم، التي هاد حالها مع ولدها. ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ [لقمان:15]، أي: اجتهدا والداك، ﴿عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا  مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾[لقمان:15]، ولا تظن ان هذا داخلٌ في الإحسان إليهما، لأن حق الله –عزَّ وجلَّ- مقدمٌ على حق كل أحد، «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»، ولم يقل: "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا  مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فعُقَّهما"؛ بل قال: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ أي: بالشرك، وأمَّا برهما فاستمر عليه؛ ولهذا قال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[لقمان:15]، أي: صحبة إحسانًا غليهما بالمعروف، وأمَّا إتباعهما وهم بحالة الكفر والمعاصي فلا تتبعهما، ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان:15]، وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، المستسلمون لربهم المنيبون إليه وإتباع سبيلهم، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله ويقرب منه. ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾[لقمان:15]، أيُّها الطائع والعاصي والمنيب وغيرهم، ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[لقمان:15]، فلا يخفى الله من أعمالهم خافية، وهذا وعيدٌ للعاصي الذي إذا سمعه دعاه إلى التوبة والرجوع إلى الله مولاه. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، والحمد لله رب العالمين.  
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه. أمَّا بعد..  عباد الله، لا زلنا في ذكر الوصايا العظيمة للحكيم لقمان، حيث بيَّنا لولده سعة علم الله تعالى فقال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ أي: في وسطها، ﴿أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾، في أي جهةٍ من جهاتها ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ لسعة علمه وتمام خبرته وكمال قدرته؛ ولهذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:١٦]، أي: لطيفٌ، أي لَطُفَ في علمه وخبرته، حتى اطلع على البواطن والأسرار وخفايا البحار والقفار، والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح قَلَّ أو كَثُر. ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ حثَّه عليها وخصَّها؛ لأنها أكبر العبادات البدنية ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وذلك يستلزم العلم بالمعروف؛ ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه، والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به  من الرفق والصبر، وقد صرح به في قوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ ومن كونه فاعلًا لما يأمر به، كافَّا لما ينهى عنه، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره ذلك بأمره ونهيه، ولما علم أنه لا بُدَّ أن يبتلى إذا أمر  أو نهى ، وإن في الأمر والنهي مشقةٌ على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ﴾ الذي وعظ به لقمان ابنه، ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:١٧]، أي: من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها ولا يوفق لها إلا أهل العزائم. ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي: لا تمله وتعبس بوجهك للناس تكبرًا وعليهم وتعاظمًا ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ أي: بطرًا وتكبرًا وفخرًا بالنعم، ناسيًا المنعم معجبًا بنفسك، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ في نفسه وهيئته وتعاظمه، ﴿فَخُورٍ﴾[لقمان:١8]، بقوله، ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ أي: امشِ متواضعًا مستكينًا لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ أدبًا مع الناس ومع الله، ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ أي: أفظعها وأبشعها ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:19]، فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدةٌ ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار، الذي قد علمت خسته وبلادته. عباد الله، إنَّ هذه الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه، تجمع أمهات الحكم وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصيةٍ يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كان أمرًا، وإلى تركها إن كان نهيًا، فتمسكوا عباد الله بهذه الوصايا ففيها النجاة في الدنيا والآخرة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمؤمنين والمؤمنات،  الأحياء منهم والأموات،﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.