شجاعة الصحابة رضي الله عنهم في معركة مؤتة
شجاعة الصحابة رضي الله عنهم في معركة مؤتة
  | , 5638   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: شجاعة الصحابة رضي الله عنهم في معركة مؤتة.
  • القاها: الشيخ الدكتور: خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  •  المكان: خطبة جمعة في يوم 25 صفر لعام 1438هـ في مسجد السعيدي بالجهراء.

 
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد..
  • عباد الله:
إن من أعظم المعارك التي خاضها المسلمون في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معركة مؤتة تلك الغزوة التي فيها من الدروس الكثير، وهي مقدمةٌ وتمهيدٌ لفتوح بلدان النصارى وقعت في جماد الأولى سنة (ثمانٍ) للهجرة، وسبب هذه المعركة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث الحارث بن عميرٍ الازدي بكتابه إلى عظيم بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمروٍ الغساني، وكان عاملاً على البلقاء من جهة قيصر في أرض الشام فأوثقه رباطًا، ثم قدمه فضرب عنقه -رضي الله تعالى عنه- فاشتد ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم حين نُقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيشٍ إسلامي لم يجتمع من ذي قبل إلا في غزوة الأحزاب. وأمرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: «إن قتل زيدٌ فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وقال لهم: «اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا، ولا تغلو، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعةٍ، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرةٍ، ولا تهدموا بناءً». نعم هذا هو الأدب الإسلامي في الجهاد فأين من يزعمون الجهاد الآن؟ ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش عبد الله بن رواحة فقالوا: "ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابةً بكم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قول الله -عزَّ وجلَّ- يذكر فيها النار: ﴿وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾ [مريم:71]. فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟"، فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين. فقال عبد الله بن رواحة -رضي الله تعالى عنه:
ولكنني أسأل الرحمن مغفرةً وضربةً ذات فرعٍ تقذف الزبدا 
أو طعنةً بيدي حران مجهزةً بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا 
حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشده الله من غازٍ وقد رشدا 
هكذا هم القوم وهكذا إيمانهم وهكذا خوفهم من الله -سبحانه وتعالى وشوقهم إلى لقاء الله -عزَّ وجلَّ-. ثم خرج القوم، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشيعًا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.  وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل (معان) من أرض الشام مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذٍ نقلت إليهم الأخبار بأن هرقل نازلٌ بمآب من أرض البلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم إليهم من نصار العرب مائة ألفٍ. ولم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم الكبير الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة، فحار المسلمون وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخبره بعدد. عدونا فاما ان يمدنا بالرجال اما ان يأمرنا بأمر نمضي له ولكن عبدالله بن رواحة رضي الله تعالى عنه عارض هذا الرأي وشجع الناس قائلا يا قوم والله ان التي ان التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس لا بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي اكرمنا الله عز وجل به فانطلقوا فإنما هي احدى الحسنيين إما ظهورٌ وإما شهادة واخيرا استقر الرأي على ما دعا اليه عبدالله بن رواحة. هكذا باعوا أنفسهم لله ولأجل الله سبحانه وتعالى. تحركوا إلى أرض العدو حتى لقيتهم جموع هرقل. بقرية من قرى البلقاء. يقال لها شارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون الى مؤتة فعسكروا هناك وتعبأوا للقتال. وهناك في مؤتة التقى الفريقان وبدأ القتال المرير. ثلاثة الاف رجل يواجهون هجمات مئتي الف مقاتل، معركة عجيبة في تاريخ البشرية، ولكن اذا هبت ريح الايمان جاءت بالعجائب والثبات. أأخذ الراية زيد ابن حارثة. حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير الا في أمثال هؤلاء من أبطال الإسلام فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم وخر شهيدا رضي الله تعالى عنه، وحينئذ أخذ الراية جعفر ابن ابي طالب وطفق يقاتل قتالا منقطع النظير حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذ الراية بشماله ولم يزل بها حتى قطعت شماله فاحتضنها بعضديه فلم يزل رافعا إياها حتى قتل رضي الله تعالى عنه وكان يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها *    
واثابه الله بجناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي جعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع ان ابن عمر أخبره رضي الله تعالى عنهما كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالبٍ فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة رومية ثم اخذ الراية عبد الله بنُ رواحة وتقدم بها وهو على فرسه فتقدم فقاتل حتى قتل، وحتى لا تسقط الراية أخذها ثابت ابن أقرم وقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. فلما أخذ الراية قاتل قتالا مريرا. روى البخاري عن خالد بن الوليد قال لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسيافٍ، فما بقي في يدي الا صفيحة يمانية. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة مخبرا بالوحي يخبر اصحابه في المدينة قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فاصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم. نعم عباد الله هكذا كان يقاتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك صبرا على نصر هذا الدين وصبرا على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يردهم قلة عددهم ولا قلة عتادهم فنالوا بذلك رضا ربهم أقول. ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه انه الغفور الرحيم. ا
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله. والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد.
  • عباد الله:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغربا جدا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر، من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما وقعوا فيه فقد نجح خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار في أول يوم من القتال وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير ان يقوم الرومان بحركات المطاردة فيقتلونهم فقد كان يعرف جيدا أن الإفلات من براثنهم صعب جدا حتى لو انكشف المسلمون وقام الرومان بالمطاردة فان ذلك يعود على المسلمين بالخسارة العظيمة، فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه وميمنة ميسرة وهكذا غير بين المواقع فلما رآهم الأعداء انكروا حالهم وقال جاءهم  مدد فرعبوا وصار خالد رضي الله تعالى عنه بعد ان تراءى الجيشان وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلا قليلا مع حفظ نظام جيشه ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء وهكذا انحاز العدو إلى بلاده ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا الى المدينة. وأستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلا. أما الرومان فقد قتل منهم عدد كبير، ولا شك أن هذا نصر من الله للمسلمين بصبرهم على تلك الجموع وقلة عددهم وبث الرعب في قلوب الأعداء جميعا من الرومان وغيرهم من مشركي العرب وذلك يؤكد أن المسلمين من طراز أخر غير ما الفته العرب وعرفته وأنهم مؤيدون منصورون من عند الله وأن صاحبهم رسول الله حقا ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان والنصارى فكان التوطئة وتمهيدا لفتوح البلدان الرومانية واحتلال المسلمين الاراضي البعيدة النائية.