بيان ما تضمنته رسالة القواعد الأربع
بيان ما تضمنته رسالة القواعد الأربع
  | , 4718   |   طباعة الصفحة


  • خطبة الجمعة بعنوان : بيان ما تضمنته رسالة القواعد الأربع للإمام محمد بن عبدالوهاب.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  • المكان: خطبة جمعة في يوم 23 محرم - عام 1439هـ في مسجد السعيدي بالجهراء ونقلت عبر إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

 
  • الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لّا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله. أمَّا بعد.. فإنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلّ ضلالةٍ في النّار. أمَّا بعد.. عباد الله: فإن أعظم الذنوب التي عُصي الله بها الإشراك به؛ ولهذا اشتد غضب الله على المشركين، فأوجب لمن مات عليه الخلود الأبديّ في النار، كما صرح بذلك في ثلاث آياتٍ من كتابه الكريم، كما قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾[النساء: 168-169]، وقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾[الأحزاب:64-65]، وقال -عزَّ وجلَّ-:﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ-يعني: معصية الكفر- ﴿فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا[الجن:23]، فهذه ثلاث آياتٍ مصرحة بأوضح عبارة وأبينها، أن من مات على الشرك الأكبر فإن مصيره إلى جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبد الآباد، والعياذ بالله. كما أخبر عن نفسه أنه لا يغفر خطيئة الشرك لمن مات عليها فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾[النساء:48]، وأخبر سبحانه أن من مات على الشرك فالجنّة عليه حرام، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، وحقيقة الشرك أن تجعل لله ندًّا فتصرف له من العبادة الظاهرة أو الباطنة، ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده، فمن عبد غير الله ولو مثقال ذرةٍ فقد أشرك بالله العظيم . والعبادة أنواع كثيرة وهي كل ما أخبر سبحانه أنه يحبه ويرضاه من الأقوال، والأعمال، الظاهرة والباطنة، ومن أجلّ العبادات الدعاء والاستغاثة عند الشدائد، والذبح والنذر، وغير ذلك مما يدخل في باب العبادة، فهذه وأمثالها من صرف منها شيئًا لغير الله فقد أشرك، وإن مات عليه لقي الله بالذنب الذي لا يغفر، وقد التبس على كثيرٍ من الناس معنى الشرك فأشركوا بالله وهم يظنون أنهم مسلمون؛ بسبب بعض الشبهات التي زينها الشيطان للعباد حتى يشركوا بربهم، فيكونوا في حزبه الخاسرين الخالدين في العذاب المهين. فمما زين لهم الشيطان وأولياؤه أن العبادة أنّ تعبد الله، فمن عبد الله فهو الموحد، وهذا فهمٌ غير صحيحٍ، حيث ينقصه الركن العظيم الثاني من أركان العبادة، وهو ترك عبادة ما سواه، فمن عبد الله وصرف شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشركٌ غير موحدٍ، فلا تسمى العبادة عبادةً إلا مع التوحيد، فلو عبدت الله وحده ألف سنة، ثم أشركت بالله الشرك الأكبر، حبط عملك كلّه كما يبطل الحدث الوضوء، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]. ولهذا فالله -عزَّ وجلَّ- يقرن بين الأمر بعبادته والنهي عن الشرك، فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا[النساء:36]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[البقرة:256]، والعروة الوثقى –عباد الله- هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، والمتمسك بها هو من عبد الله وكفر بعبادة ما سواه. كما زين الشيطان لأوليائه أن من اعتقد أن الله هو الخالق، الرازق، والمدبر، والمحيي والمميت فهو الموحد، ولو عبد غير الله، وهذا من أباطيل الشيطان وأوليائه والمغترين بها. فإن مشركي قريش كانوا يقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي ينزل الغيث ويتصرف في أمر السماء والأرض، ومع ذلك حكم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشرك، وقاتلهم واستحل أموالهم؛ وذلك لأنهم لم يفردوا الله بالعبادة، فلم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية، الذي هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر المالك دون توحيد الألوهية. قال الله عن المشركين: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[الزمر:38]، وقال -عزَّ وجلَّ-:  ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]. وخلاصة هذا الأمر: أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا ينفع صاحبه، حتى يقر بتوحيد الألوهية، فيتوجه بعبادته كلّها إلى ربه وخالقه وحده ولا يصرف منها شيئًا لغيره. وزين الشيطان لكثير ممن ينتسب إلى الإسلام، من المفتونين بالأضرحة وقبور الأولياء والمشاهد، فقال لهم: إنكم إذا دعوتم الأولياء ليقربوكم إلى الله فلستم بمشركين، وإذا طلبتم منهم الشفاعة عند ربكم فلستم بمشركين؛ لأنكم تعتقدون أن الذي يملك الضر والنفع هو الله، وهؤلاء إنما هم وسائط بينكم وبين ربكم لحب الله لهم ولعظيم مكانتهم عنده، وهذه شبهةٌ باطلة نقضها القرآن الكريم، فقد صرح ربنا في كتابه أن المشركين الذين كفرهم الله ورسوله، واستحل دماءهم ونساءهم وأموالهم، كانوا يقولون: ما ندعوا هؤلاء الأولياء وهذه الأصنام؛ إلا ليشفعوا لنا عند الله، وما ندعوهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فهو العذر نفسه الذي يعتذر به عباد القبور اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام. قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فرد الله عليهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ[الزمر:3]. وقال -عزَّ وجلَّ- ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فرد الله عليهم ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[يونس:18]، فصرح الله بكفر من دعا غيره، يريد منه أن يقربه إلى الله، أو يشفع له عند الله، ولو قال: إني على يقين أن من أدعوهم من دون الله لا يملكون شيئًا من ضرٍّ أو نفع. وأوحى الشيطان لأوليائه أنه إذا قال لكم الموحدون: إذا دعوتم الأولياء فقد أشركتم وصرتم كمشركي قريش وأمثالهم، فقولوا لهم: نحن ندعو أولياء صالحين، وقريش كانت تدعو الأصنام والأوثان ففرقٌ بيننا وبينهم، وهذه شبهةٌ ساقطة نقضها الله في كتابه الكريم في مواضع عديدةٍ، حيث صرح الله في كتابه بكفر من عبد الصالحين، وكفر من عبد الكواكب، وكفر من عبد الأوثان والأصنام، وكفر من عبد الملائكة، فكلهم سواء في الكفر بالله؛ ولهذا كفر الله من عبد عيسى بن مريم وهو من أولي العزم من الرسل، وكفر الله من عبد الملائكة وهم عباد مكرمون. وفي هذا يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا يعني: ما أرسل الله من رسولٍ ولا نبي يأمر الناس بعبادة الملائكة ولا النبيين، فضلاً عن الأولياء والصالحين، ثم رد على من زعم تلك المقالة، فقال سبحانه: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:80]، فكما كفر الله من عبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فقد كفر عبّاد الملائكة والنبيين والصالحين، فإن من سوى الله عبدٌ ضعيف فقير إلى ربه وخالقه ومولاه، يرجو رحمته ويخشى عذابه لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعًا ولا ضرًا. اللهم إنَّا نسألك أن تميتنا على التوحيد، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه أنه هو الغور الرحيم.  
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. أمَّا بعد.. عباد الله: إذا عرفنا ما مرّ تبين لنا -يا عباد الله- أن المشركين في هذه الأعصار المتأخرة، ليسوا مشركين فقط، ولكنهم أشد جرمًا وأعظم كفرًا من كفار قريش وأمثالهم؛ لأن المشركين السابقين كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون الدعاء والدين في حال الشدة، قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65]. أمَّا المشركون الذين ينتسبون إلى الإسلام اليوم، فإنهم إذا اشتدت بهم الكربات صاحوا بأوليائهم، يطلبون منهم الغوث والعون والمدد، فشركهم دائمٌ في الرخاء و يزداد في الشدة، والمشركون الأقدمون –عباد الله- كانوا يعبدون الصالحين وهو شركٌ دون شك، فالمشركون الذين ينتسبون إلى الإسلام، كثيرٌ منهم يعبدون أناسًا هم من أفجر الناس أخلاقًا وأخبثهم معتقدًا، ومع ذلك يشهدون لهم بالولاية ثم يعبدونهم مع الله تعالى وتقدس. عباد الله: إن من أعظم الرسائل والمؤلفات التي دعت إلى التوحيد، وهذا ما ذكرناه خلاصة بعض رسائل الإمام المجدد، شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، وهي رسالة (القواعد الأربع)، وهي رسالةٌ نافعة عظيمة القدر على اختصارها حريٌّ بالمسلم أن يحفظها ويفهمها، والشيخ/ محمدٌ -رحمه الله تعالى- من أعظم الدعاة والمصلحين، الذين ظهروا في تاريخ الإسلام؛ وذلك أنه اقتفى منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، فاعتنى ببيان التوحيد الحق الذي بُعث الأنبياء لأجله، واعتنى ببيان ما يضاده من الشرك، فحارب مظاهر الشرك والوثنية والخرافة والبدع والمحدثات، مع العناية بسائر الشريعة في العبادات والأخلاق وغيرها، فنفع الله بدعوته أممًا كثيرة فتركوا الشرك وأخلصوا الدين لله وحده. اللهم إنَّا نسألك ان تثبتنا على لا إله إلا الله، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.