آداب الدعاء
آداب الدعاء
  | 5142   |   طباعة الصفحة


  • العنوان: آداب الدعاء
  • ألقاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى
  • المكان: خطبة جمعة في مسجد السعيدي بالجهراء 20 جمادى الأولى 1435هـ ونقلت مباشرا على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

   

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعين ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد.. عباد الله فإن الدعاء من أجلِّ العبادات وأعظمها شأنًا حتى قال فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَة»؛ وذلك أنه يجتمع في الدعاء من صور العبودية لله ما لا يكاد يجتمع في غيره من إظهار الضعف والفاقة والحاجة إلى الله، ومن إظهار الذل والخشوع والخضوع لجلاله، ولما يستلزمه من إيمان الداعي بأن الله عليمٌ سميعٌ قريبٌ مجيب الدعاء، ومن أنه سبحانه بيده مقاليد كل شيءٍ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما فيه من الدلالة على حسن ظن الداعي بالله، والطمع والرجاء في فضله، والرهبة والخشية من أليم عقابه إلى غير ذلك مما تقصر عنه العبارة. ولما كان الدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف؛ أي لا تؤدى هذه العبادة إلا على ضوء ما شرع الله تعالى. كان حريًا بالمسلم أن يتفقه في أحكام الدعاء حتى يدعو ربه دعاءً صحيحًا تكون عاقبته القبول والاستجابة، وجزيل الإثابة، ولأن لا يدخله ما يغضب الله فيرد الله على الداعي دعاءه دون استجابة. بل وينضاف إلى ذلك أن يكتب عليه اسم المخالفة لحكم الشرع، ووزرها والعياذ بالله. فمن أحكام الدعاء حتى يكون دعاءً صالحًا: أولًا: "الإخلاص لله تعالى" فلا يقصد به الداعي رياءً ولا سمعة، وإنما يريد به وجه الله وهذا شرطٌ لقبول جميع الأعمال قال –عز وجل-: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:2]. والرياء قد يدخل في الدعاء، ولاسيما في الدعاء الجهري كدعاء القنوت في رمضان، وقنوات النوازل فيزين الشيطان للداعي أن يُحسن صوته، وأن يتظاهر بالخشوع ورقة القلب والبكاء حتى يمدحه الناس ويكون له مكانةً في قلوبهم. وهذا من مداخل الشيطان التي يتسلل منها إلى قلب الداعي ليفسد عليه عبادته ودعاءه. ومن الإخلاص في الدعاء: أن لا يدعو إلا الله تعالى فلا ينزل المسلم حاجته بضريحٍ أو وليٍ أو غائبٍ أو سيديٍ، أو مقامٍ أو مشهدٍ، أو جنٍ أو غير ذلك من المألوهات من دون الله لا في حال الرخاء، ولا في حال الشدة. وقد كانت الجاهلية الأولى يشركون بالله في الرخاء فإذا نزلت بهم الشدائد والكربات أخلصوا الدعاء لله ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت:65] ولكن يوجد اليوم من ينتسب إلى الإسلام وهو يشرك في الدعاء كثيرًا من الأنداد والشركاء في حال الشدة فضلًا عن حال الرخاء والعياذ بالله فيدع مالك الملك ومدبر الأمر، ومجيب دعوة المضطر ويجأر بصوته يا حُسينٌ، ويا عليٌ، ويا سيدي فلان يناديهم كما ينادي ربه والعياذ بالله فهذا من الشرك الذي بعث الله النبيين والمرسلين لمحاربته وإبطاله. ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف:5]. ثانيًا: أن يحرص الداعي على أن يستفتح دعاءه بالحمد والثناء على الله ثم الصلاة على نبينا -صلى الله عليه وسلم-. فعن فضالة بن عبيدٍ قال: "بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى؛ (أي: فدعا)، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ؛ (أي: إذا دعيت) فَقَعَدْتَ، فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ»، ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ نبِيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ»" رواه الترمذي وحسَّنه. ثالثًا: ينبغي للداعي أن يتحرى جوامع الدعاء؛ أي الكلمات القليلة التي تجمع المعاني الكثيرة، وأن يجتنب ما أمكن التفصيل والتكلف في ذلك. فقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه يتحرى الجوامع من الدعاء) وخير الدعاء: الدعاء المأثور الوارد في الكتاب والسنة فإنه جامعٌ لطلب الخير والاستعاذة من الشر، سالمٌ من المحاذير التي تدخل كثيرًا على بعض الأدعية التي ينشئها الداعي من عند نفسه أو يقلد فيها غيره. رابعًا: ومن آداب الدعاء اجتناب السجع المتكلف، والمقصود بـ(السجع): اتفاق أواخر الكلمات فكل جملةٍ في حروفها ووزنها فإنه يشغل الداعي عن حقيقة الدعاء، ويصرف همه إلى اختيار الكلمة المناسبة في الجملة التالية. روى البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال لمولاه عكرمة –رحمه الله-: "وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون ذلك"؛ أي لا يفعلون إلا اجتناب السجع أما ما جرى على اللسان بدون قصدٍ ولا تكلفٍ فلا حرج فيه، وعليه يحمل ما ورد في الأدعية النبوية. خامسًا: من آداب الدعاء الذي يكون في صلاة الجماعة كالقنوت في النوازل، وفي التراويح أن يكون مختصرًا بعيدًا عن الإطالة التي تشق على الناس وتؤدي إلى الفتور والملل، ومن رأى دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوتر التي علمها للحسن -رضي الله عنه-، ودعاءه في قنوت النوازل، ودعاء الصحابة من بعده يجد أنها دعواتٍ تتركب من جملٍ مختصرة مباركةٍ جامعةٍ وافيةٍ بالمقصود، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم. سادسًا: من آداب الدعاء أن يجزم في الطلب والمسألة ولا يعلقه على المشيئة؛ لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ‏لِيَعْزِمْ ‏‏الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ» متفقٌ عليه. فلا يقول الداعي مثلًا: غفر الله لك إن شاء الله أو يغفر الله لك إن شاء الله ولكن يقولها من غير (إن شاء الله). سابعًا: من آداب الدعاء الإلحاح في الدعاء بالتضرع، والصدق، وعدم استبطاء الإجابة. عن ابن مسعودٍ –رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا دعا ثلاثًا» رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِم، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ماَ الاسْتَعْجِال؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ أرى يُسْتَجَبْ لِي، فَيستحَسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، ويَدع الدُّعَاءَ». رواه مسلم. ثامنًا: أن يرفع يديه إلى حذو منكبيه علامةً على التذلل لجلال الله وعظمته. لكنَّ رفع اليدين من الخطيب يوم الجمعة غير مشروعٍ، ورفع المأمومين أيديهم في التأمين على دعاء الخطيب أيضًا غير مشروعٍ إلا إذا استسقى الخطيبُ وسأل الله المطر في دعاءه فيرفع ويرفعون. إنما الذي يشرع أن يشير الخطيبُ وحده في دعاءه بإصبعٍ واحدة، وكذلك لا يمسح وجهه بعد الدعاء فإن ذلك غير مشروعٍ ولم يرد عن نبينا صلى الله عليه وسلم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.  

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد.. عباد الله، ومن آداب الدعاء المهمة: أن يجتنب الاعتداء في الدعاء قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55]. والاعتداء في الدعاء أحيانًا يكون في ألفاظه، وأحيانًا يكون في معناه، وأحيانًا يكون في صورة أدائه. فمن الاعتداء: التفصيل في سؤال الجنة، والاستعاذة من النار؛ وذلك بسرد أنواعٍ من نعيم الجنة، وأنواعٍ من صور العذاب. وقد سمع سعد بن أبي وقاصٍ –رضي الله عنه- بعض ولده، وهو يسأل ربه الجنة ونعمها وبهجتها، وكذا وكذا، ويعوذ بالله من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا. فأنكر عليه –رضي الله عنه-، وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ "وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة: ﴿ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55]، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وعَمَل، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وعَمَل» رواه أحمد. ومن صوره أن يقلب الداعي الدعاء إلى موعظةٍ بذكر تفاصيل ما يجري عند نزع الروح، وفي القبر، وفي عرصات القيامة، والحساب والصحف والميزان أو يفصل ما يجري من المصائب والحروب عند النوازل من القصف بالطائرات وغير ذلك، وما يحصل من القتل والهدم والجوع والعري، والخوف والرعب ونحو ذلك مما يندرج في التفصيل المذموم شرعًا. وإذا تأملنا في حقيقة الباعث على هذا النوع من الأدعية فستجد أن المقصود به إثارة حماس المأمومين، وتهييجُ عواطفهم، وإشغالُهم بما يسمى بالملفات الساخنة من قضايا المسلمين، وفي هذا تحريفٌ لمقاصد الدعاء وخروجٌ عنها فالدعاء مقام ضراعةٍ، وطلبٌ للإجابة وليس وسيلةً تستغل لمقاصد الداعي ومآربه. ومن الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الداعي على ولاة أمور المسلمين تصريحًا أو تلميحًا. وقد كان كبار الصحابة –رضوان الله تعالى عليهم- ينهون عن الدعاء على ولاة الأمور، وإن جاروا وظلموا كما في حديث أنسٍ –رضي الله عنه- وفي غيره من الآثار الكثيرة. ومن صور الاعتداء في الدعاء: أن يلحن الداعي دعاءه، ويرتله كما يفعل بالقرآن الكريم وهذا غير مشروعٍ وإنما يدعو الداعي بصوته المعتاد؛ لأن تشبيه الدعاء بالقرآن لم يعرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه. فاحرص يا عبد الله على الاستكثار من الدعاء فإنه عبادةٌ عظيمة، واحرص على أن لا يكون في دعائك شيءٌ مما يخالف الشرع فيكون سببًا للإثم ولرد الدعاء. اللهم إنَّا نسألك التوفيق في القول والعمل، اللهم يا ربنا تقبل منَّا واغفر لنا. اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.