سبق المفردون
سبق المفردون
  | 4980   |   طباعة الصفحة


  • خطبة جمعة : سبق المفردون.
  • القاها: الشيخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري حفظه الله تعالى.
  •  المكان: خطبة جمعة في يوم 8 ربيع الثاني - عام 1438هـ في مسجد السعيدي بالجهراء، ونقلت مباشراً على إذاعة موقع ميراث الأنبياء.

   
  • الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.. فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد.. عباد الله، اتقوا الله تعالى فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه. عباد الله إن العبد في هذه الدنيا مطلوبٌ منه أن يعبد الله -عزَّ وجلَّ- بقلبه ولسانه وجوارحه ولكل واحدٍ منها عباداتٌ تخصها، وإن من أعظم ما يقوم به اللسان من العبادات وأزكى الأعمال، وخير الخصال، وأحبها إلى الله ذي الجلال ذكر الله -سبحانه وتعالى-. روى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخبِّرُكم بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ»، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: «ذِكْرُ اللَّه تَعاَلىَ». الذّاكرون الله تعالى هم السباقون في ميدان السير إلى الله والدار الآخرة. عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: "وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ». وهؤلاء -عباد الله- هم الذين أعدّ الله -عزَّ وجلَّ- لهم النزل الكريمة والثواب العظيم، ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35] ذكر الله هو حياة القلوب، فلا حياة لها إلا به، روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». وليس للقلوب قرارٌ ولا اطمئنانٌ، ولا هناءةٌ، ولا لذةٌ، ولا سعادة إلا بذكر الله -عزَّ وجلَّ-. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. ذكر الله تعالى هو الفرج بعد الشدَّة، واليسر بعد العسر، والفرح بعد الغم والهم وهو تفريج الكربات، وتيسر الأمور، وتحقق الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة وما عولج كربٌ ولا أزيلت شدَّة بمثل ذكر الله -تبارك وتعالى-. وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول في الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكًريم»، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا دْعَا بِهَا مَكروبٌ إلَّا فَرجَ الله كَربه». ذكر الله -عباد الله- جالبٌ للنعم، جالبٌ للنعم المفقودة، وحافظٌ للنعم الموجودة فما استجلبت نعمةٌ وما حفظت نعمة بمثل ذكر الله -عزَّ وجلَّ. ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]. ذكر الله -جلَّ وعلا- محطُّ الأوزار، وتكفير السيِّئات، ورفعة الدرجات، وعلو المنازل عند الله -عزَّ وجلَّ- فما حُطَّت الأوزار بمثل ذكره سبحانه. روى الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَا عَمَلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّه تَباَرك وتعَالىَ»، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ ولو كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وذكر الله -عزَّ وجلَّ- غراس الجنة فما غرست الجنة بمثل ذكره -تعالى-، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» رواه الترمذي. وروى الترمذي أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ اَلْخَليل لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ لي: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ قِيعَان، وأَنَّها طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاء، وأَخبرهم أَنَّ غِرَاسَهَا: "سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». ذكر الله -عباد الله- كلماتٌ خفيفةٌ على اللسان لا تكلِّف العبد جهدًا، ولا يناله منها مشقة إلا أن لها ثوابًا عظيمًا وأجرًا جزيلا، وهي حبيبةٌ إلى الله -عزَّ وجلَّ-. روى البخاري في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ». عباد الله، ذكر الله -جلَّ وعلا- هو الطارد للشيطان، والمخلِّص من وساوسه، وشروره وكيده وحبائله. - ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت:36]. - ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون:97- 98]. - ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201]. - ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف:36]. عباد الله، إن ثمار الذكر على أهله، وفوائده على أصحابه المحافظين عليه لا تعدُّ ولا تُحصى وأنظر في ذلك كتاب (الوابل الصيب في الكلم الطيب) للعلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-، فقد عدَّد فيه -رحمه الله- فوائد عظيمة تزيد على السبعين فائدة لذكر الله -تبارك وتعالى-، وعندما تقف على هذه الفوائد العظيمة يزداد حرصك وتعظم رغبتك في المحافظة على ذكر الله، جعلنا الله أجمعين من الذاكرين لله حقًّا، والمحافظين على طاعته وعبادته صدقًا، وهدانا أجمعين لأقرب من هذا رشدًا، إنه تبارك وتعالى سميعٌ وهو أهل الرجاء، وحسبنا ونعم الوكيل.
  • الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد.. عباد الله، لقد تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة، وتضافرت الدلائل فيهما في الحث على ذكر الله، والأمر بذكره سبحانه، وبيان ثواب المكثرين من ذكر الله في آياتٍ كثيرة، وأحاديث عديدة صحَّت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -تبارك تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:41-43]. يقول ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما-: "فإذا فعلتم ذلك، (أي: أكثرتم من ذكر الله تعالى)، صلى الله عليكم وملائكته". ويقول الله -تعالى-: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35]، ويقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي فيها الحث على الإكثار من ذكر الله والأمر بذكره سبحانه بالكثرة. وهاهنا -عباد الله- يقول العلماء في كتب التفسير وشروح الحديث: "إن المسلم إذا واظب على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وأذكار النوم، والأذكار التي تقال عند الدخول والخروج وعند الكروب، وعند الطعام وعند الشراب وبعد الفراغ منهما، إلى غيرها من الأذكار الموظفة للمسلم في يومه وليلته مع عنايته منهم بالذكر المطلق كتب بذلك من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا". اسأل نفسك يا عبد الله كم مرةً تفتح المصحف في يومك، كم مرةً تجلس للذكر بعد الصلوات، وهل تحافظ على الأذكار الواردة في المساء والصباح وغير ذلك؟ نجلس بالساعات في مجالس اللهو، والغيبة والنميمة، وعلى الهواتف والأجهزة والألعاب وغيرها وكل هذا الوقت نحن عنه مسئولون، وعليه محاسبون، ويوم القيامة على التفريط فيه نادمون ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد، الكيس -عباد الله- من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا، اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا، اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا. اللهم إنا نسألك في الدنيا حسنة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.